لم تكن صرخة ذاك السوريّ المحاصر في الغوطة الدمشقية: اقصفونا بالذرّي وخلصونا! إلا صدىً لغيرها من الصيحات في باقي المدن والقرى التي تتشارك المصير نفسه من قوى الطغيان والزعرنة بالقتل اليوميّ، بدءاً من التجويع حتى الصواريخ الارتجاجية، مروراً بالبراميل المتفجرة. ليست تلك الصرخة التي طالب بها الغزاةَ بأن يقصفونا بالأسلحة الذرية، للخلاص الفوريّ من كلّ هذا العذاب الممتدّ من الصباح إلى الصباح، إلا تعبيراً عن السخط والاحتقار تجاه هذا العالم الذي يكشف عن تهافتٍ أخلاقيٍّ كبير.
لم يكن الثوار الشبان والشابات، الذين خرجوا يهتفون للحرية والكرامة والخلاص من النظام الاستبداديّ القائم على التمييز والاستثناءات، يعرفون أن تغيير هذا النظام المتميز بعنفه سيجلب كل أشكال القتل والدمار لسورية، بعد أن مكّنته الفترة الطويلة التي قضاها في الحكم -وقد قاربت الخمسين عاماً- من شحذ كل الوسائل الممكنة من داخليةٍ وخارجيةٍ لتدمير وتفتيت المجتمع السوريّ بريفه ومدينته، وعرضه للبيع والشراء في سوق البازارات الدولية.
فبالإضافة إلى العصبوية الطائفية التي كانت عمود سلطته بما هي سلطة مخابراتٍ وعسكر، كان قد نسج حولها ولاءاتٍ عدّةٍ عبر «سلطاتٍ» أقل من السلطة الحقيقية الأولى، اعتمدت على الصراع الريفيّ المدينيّ، وعلى التركيبات القبلية والعشائرية، وصولاً إلى استثمار الصراعات العائلية. وهذا كله دون إغفال روابط الامتيازات والمصالح الذي وزّعها وفق درجة الارتباط بسلطة المحور.
وعلى هامش هذه السلطات نمت تياراتٌ سياسيةٌ عتيقة، وأخرى نبتت كالفطر من جديد، تشاركت بشكلٍ أو بآخر في وقوفها إلى جانب القتل المستمرّ في حقّ السوريين، وذلك عبر أطروحاتها وإستراتيجياتها التي لا تفهمها غير العواصم التي تمليها. فيغدو أصحاب وجهات النظر هذه أبواقاً يرددون ما يقوله أسيادهم ويوغلون في تفسيره، ويصبحون مبرِّرين لسياساتٍ معاديةٍ للشعب. فمنهم من يسوّغ عدوان الروس البشع معتبراً أن «تدخلهم صحيح مئة في المئة»، بل إنهم «تأخروا كثيراً»! وتحت حجة محاربة الارهاب يبرّر هؤلاء عمليات القتل الجماعيّ، وقبلها المواقف السياسية الداعمة للنظام، حتى برّر بعضهم موقف مصر الأخير بوقوفها إلى جانب روسيا في مجلس الأمن، بعد أن تراجع دور هذا البلد العربيّ المركزيّ بشكلٍ انحداريٍّ منذ انقلاب السيسي إلى حالةٍ يُرثى لها.
بالطبع، لا تقارَن مواقف الدول الداعمة للنظام مثل روسيا وإيران بمواقف بعض أطياف هذه المعارضة وشخصياتها، القديمة منها والتي صُنّع بعضها الآخر أثناء الثورة كظلٍّ للدول المذكورة، من جهة تحمل المسؤولية والمشاركة في القتل والتهجير، ولكنهم جزءٌ من الحالة التي تشكلت في مواجهة الثورة كقوة تبريرٍ وتضليل.
فروسيا، كقوة احتلالٍ عسكريٍّ مباشرٍ بطائراتها وصواريخها، وإيران، بميليشياتها وحرسها الثوريّ؛ مسؤولتان مباشرةً عن القتل والتهجير والحصار، بينما يُترك لهؤلاء «المعارضين» دور التبرير والتعمية؛ ابتداءً من مساواة القاتل مع الشعب الأعزل وتحميلهما المسؤولية بالتساوي عما يجري في حقّ الناس والبلاد، وصولاً إلى توصيف حالتنا بأنها حالة حربٍ أهلية، أو حربٍ على قوى الإرهاب المتمثلة بالطبع -وفق هؤلاء «المعارضين»- بالكتلة الشعبية «الجاهلة» التي تقاتل النظام. ويعود هذا -في جزءٍ منه- إلى الذهنية التي تعمل وفقها تلك الشخصيات والأحزاب والتيارات، من أن العملية السياسية برمّتها تنحصر في الوصول إلى السلطة عبر حزبٍ أو تيارٍ قياديٍّ مهمته تسيير ونقل هذا الشعب «الجاهل» نحو شاطئ الاستقرار الذي يراه الحزب الذي يعبّر عن رغبته المستمرّة في الدور القياديّ والطليعيّ، متجاهلاً بالكامل التشارك مع الشعب في إدارة البلاد.
مقابل تلك المنظومة المرعبة تبرز القيمة الرمزية الكبرى لصرخة هذا الرجل المحاصر، الذي ربما يشاهد أطفاله أمام عينيه في حاجةٍ إلى الحليب والطعام، أو زوجته في حاجةٍ إلى الدواء، أو لربما كان في حاجةٍ إلى الاستمتاع بكأسٍ من الشاي. وقبله صرخة المرأة الحلبية التي اتهمت رأس النظام بالخيانة والتبعية لإيران، ولم تنسَ أن تذكّره بأننا نحن أصحاب الأرض، بمعنى أن الخونة سيذهبون مع أسيادهم وأن الشعوب باقيةٌ مع الأرض، فهي مغروسةٌ فيها.
بمقارنة المنظومتين تظهر أهمية تلك الصرخات كأقوى سلاحٍ يمتلكه الناس، مثلما صرخوا في الأيام الأولى بالحرية والكرامة وواجههم الجلاد حينها بالرصاص، كصيحةٍ تتحدى كل أنواع الأسلحة بما فيها الذرية. والأمر الذي تشير إليه هذه الصرخات أكثر هو تعلق السوريين بالحياة والحرية، لا كمضادٍّ فقط للموت الذي تبغيه قوى الطغيان، وإنما لأجل العمران والبناء والتعليم والفرح. فالحرية بما تحمل من معانٍ وقيمٍ هي دائماً أكبر من الاستبداد، وهي ما دفع ويدفع من أجلها السوريون الكثير، وسينالونها مهما كبرت الآلام.