- Home
- مقالات
- رادار المدينة
إيران تسعى إلى تحويل المباني الدينية في اللاذقية إلى حسينيات عبر رجال دين تابعين لها
دون سابق معرفة، دخل "مصطفى" جامع الخلفاء الراشدين في أوتستراد الثورة باللاذقية لأداء صلاة الجمعة التي تزامنت مع وجوده في المنطقة لقضاء حاجات شخصية؛ شعر مصطفى باختلاف الجامع عن الجوامع التي يقصدها، لاحظ أن الخطيب يضع عمامةً مختلفة عن تلك التي يضعها خطباء المساجد العلوية المألوفة لديه، وسمع ألفاظاً لم يعتد على سماعها.
بقي مصطفى في مكانه، وبدأ فى الاستعداد للصلاة دون أن يخطر بباله أنّه في جامع شيعي، إلى أن بدأت الصلاة، ووجد أنّه الوحيد الذي وضع يده اليمنى على اليسرى، فيما أرخى الجميع أذرعهم (إسبال).
يسلط هذا التقرير الضوء على تغير الهوية المذهبية لبعض الأماكن الدينية في مدينة اللاذقية. تتفق المصادر التي تمت مقابلتها، ومنها خطباء مساجد ومسؤولون سابقون في أوقاف المدينة وسكان، أن اللاذقية معروفة بالتعدد الطائفي والعرقي وبقيت خارج المد الشيعي (الذي بدأ عشية تسلم الخميني الحكم في إيران) حتى أوائل القرن الحالي. يقول الدكتور "عبد الوهاب" الباحث في الشأن الإيراني في سوريا والذي رفض نشر اسمه بالكامل، أن أحدى استراتيجيات إيران للتدخل في سوريا هو السيطرة على المباني الدينية وبناء الحسينيات، وهي مباني دينية تمارس بها الطقوس الدينية الشيعية.
تغيير كامل أو جزئي:
مساجد الطائفة العلوية بمدينة اللاذقية كانت من أماكن العبادة التي شهدت عمليات التحول. التغيير تم إمّا بشكل كامل، فيتحول المسجد بأكمله إلى مسجد شيعي، أو بشكل جزئي، فتتم المحافظة على هوية المسجد مع دخول الطقوس الشيعية إليه. ومن خلال البحث، تبيّن أنّ 11 من مساجد اللاذقية شهدت هذا النوع من التغير، وتحولت بعضها إلى حسينيات.
مصادر أهلية في اللاذقية والشيخ خالد كمال، الذي عمل إماماً في عدة مساجد في اللاذقية منذ بداية عام 2000 حتى عام 2012 وكان معاون مدير الثانوية الشرعية في اللاذقية لمدة شهرين إبّان الثورة قبل أن يغادر المدينة، قالوا أن التغير الكامل شمل جامع الرسول الأعظم، الذي كان مسجداً صغيراً للطائفة العلوية في حي شريتح داخل المدينة، وأصبح الآن "مجمّعاً" يضم حسينية ومدرسة شرعية، وجامعة لتدريس المذهب الجعفري.
مجالس إقامة الطقوس الشيعية داخل جامع الخلفاء الراشدين - خاص
الحال ذاته ينطبق على جامع الإمام جعفر الصادق، الذي كان مسجداً للطائفة العلوية في حي الرمل الشمالي، وأصبح اليوم مخصصاً للطائفة الشيعية، حسب شهادة أهالٍ يسكنون بجوار الجامع. ويشارك جامع الخلفاء الراشدين الذي دخله مصطفى مصادفة، الجوامع السابقة بالمصير. فقد كان مسجداً علوياً قبل أن يتحول إلى مسجد شيعي.
كما طرأ التغيير الجزئي على بعض أماكن العبادة السنية وتمثّل بإدخال الطقوس الشيعية، وتمييع الخطاب الديني" فيها حتى يتماهى مع الخطاب الشيعي، كما تقول المصادر من سكان وأئمة سابقين. من ضمن هذه الأماكن، جامع أٔسامة بن زيد المعروف محلياً بالغراف، الكائن في حي الرمل الجنوبي، حيث تمارس فيه الطقوس الشيعية بشكل دائم، حسب المصادر، دون الإعلان عن تحوّله رسمياً إلى جامع شيعي أو حسينية.
كما حدث تغيير جزئي للثانوية الشرعية وسط حي الصليبة، حيث أُدخل المذهب الشيعي إلى منهاجها، وتم تغيّير اسمها لتصبح "مركز الإمام الشهيد د.محمد سعيد رمضان البوطي للدراسات الإسلامية". أحد الطلاب في المدينة، والذي يقيم في حي السجن، ولكن رفض نشر اسمه بالتقرير، تحدث عن أن تغيير الاسم جاء بسبب وجود شعبية بين الأهالي للدكتور البوطي، وهو عالم دين سوري متخصص بالعلوم الإسلامية حظي بمكانة كبيرة شعبياً واحترام من قبل علماء في العالم الإسلامي وله العديد من المؤلفات والكتب، قُتل عام 2013. ويضيف أن تغيير الاسم جذب الطلاب إلى المدرسة، وأنه تم إدخال كتب للمذاهب الشيعية والتي يتم تدريسها الآن.
ويرى الإمام السابق الشيخ كمال، أنّ إيران أسّست من خلال عمليات الاستحواذ على دور العبادة، لوجود ديني في اللاذقية لم يكن موجوداً من قبل.
الثانوية الشرعية سابقاً، مركز البوطي حالياً - من الانترنت
التحويل بدل الإنشاء:
في رأي الشيخ كمال هناك سببان أساسيان لتغيير هوية الأماكن الدينية الموجودة منذ القدم بدلاً من بناء أماكن عبادة جديدة.
الأول هو أنه عندما يتم الاستحواذ على مسجد ويأتي المصلي إلى "مسجده" سيجد خطاباً شيعياً يختلف عن الخطاب السابق، وهذا برأي الشيخ كمال يسهّل جذب المزيد من الناس الى المذهب الشيعي.
ويشير الشيخ إلى "عدم وجود قديم للشيعة في اللاذقية"، وهو ما يراه سبباً ثانياً لمحاولة تغيير هوية المساجد. ويضيف أنه بهذه الطريقة ومع مرور الوقت، يتم "سرقة تاريخ المنطقة" وادعاء الوجود القديم فيها بدليل المساجد المبدّلة.
الشيخ فهد راعي، مدير الأوقاف (سابقاً) في مدينة اللاذقية ومدير الثانوية الشرعية لمدة 13 عاماً، يوافق الشيخ كمال حول أسباب تغيير هوية المساجد والمدارس الدينية. ويضيف الشيخ راعي، أنّ الأبنية الدينية التي تتبع المذهب الشيعي لم ترخص رسمياً من الأوقاف على أنها شيعية.
يوضح الشيخ الراعي، أنّ الحصول على ترخيص لبناء مسجد يستدعي تقديم طلب لمديرية الأوقاف، ولايمكن بناء أي معلم ديني جديد دون وجود وقف تابع له لتأمين النفقات، مما يصعب الحصول على تراخيص لإقامة أماكن دينية تتبع المذهب الشيعي، وهنا تكون عملية التحويل أسهل.
وفي رأي الشيخ راعي، أن أحد أسباب الاهتمام الإيراني بضم مبانٍ دينية تابعة للمذهب الشيعي إلى مديرية الأوقاف، هو أن هذا يتيح لها "توسيع تواجدهم، إضافة إلى السعي مستقبلاً لاستلام مديرية الأوقاف من خلال اعتبارهم كأكثرية"، ويسم الشيخ راعي هذا بأنه "سرقة تراث الأبنية الدينية".
الأذان.. تعويم المذهب الشيعي
على طاولة الإفطار الرمضاني، يبدأ مهند بشرب الماء، ثم يبدأ بالأكل بعد أن يسمع الأذان. بعد دقائق يسمع أذان آخر من جامع الرسول الأعظم، لكنّه مختلف عن الأول، إذ يحتوي على جمل إضافية: "أشهد أن علياً ولي الله، وأن علياً أمير المؤمنين وحجة الله"، فيبدأ الصائمون الذين يتبعون المذهب الشيعي بالإفطار، في مشهد يبدو تنافسياً بين مذهبين لذات الدين.
"لم نعتد على سماع هذا الأذان في المدينة قبل نحو 15 عاماً"، يقول مهند ومتعاونون زوّدوا معدة التحقيق بفيديوهات للأذانين.
أذان يرفع من مجمع الرسول الأعظم - خاص
يعمل مهند، وهو شاب ثلاثيني من مدينة اللاذقية رفض نشر اسمه الحقيقي، في السياحة الدينية للإيرانيين في سوريا. عمل مكّنه من معاينة الجوامع من داخلها، وملاحظة الفرق بالخدمات في المساجد التي تتبع المذهب الشيعي مقارنة بمساجد أخرى في المدينة، وخاصّة فيما يتعلّق بمولدات الكهرباء والوقود اللازم لتشغيلها عند انقطاع الكهرباء. يقول مهند أن الأذان الشيعي لا ينقطع ولا يتأخر عن موعده.
النقطة ذاتها استوقفت مصطفى الذي بدأت قصّتنا معه. لاحظ مصطفى أن الأذان الشيعي أصبح له وجود بالمدينة مثله مثل صوت الأذان المعتاد وجرس الكنائس، ويسمع بوضوح.
رجال الدين..
بحسب الصحفية والناشطة هنادي زلحوط ابنة اللاذقية، فإنّ التدخل الإيراني في اللاذقية مرّ بمراحل مختلفة بلغت ذروتها في عهد بشار الأسد، والذي بلغت فيه العلاقات مع إيران أوجها. وتضيف أن من تولّى استراتيجية التحول إلى المذهب الشيعي في اللاذقية هم رجال دين سوريون درسوا المذهب في مدينة قم الإيرانية.
الشيخ كمال يوافق زلحوط بأن التمدد الشيعي في اللاذقية مر بمراحل، ومن أبرزها الإعلان عن تأسيس أول حسينية (الرسول الأعظم بتطوراته). وأشار إلى بروز بعض رجال الدين الذين درسوا في ايران وساعدوا على انتشار المذهب من خلال مناصبهم بالمساجد المتحولة والمدارس.
وتلفت الصحفية النظر إلى "أنّ رئاسة المراكز الشيعية هي لرجال الدين الذين درسوا في قم، بينما توكل مهمات هامشية لأولئك المتشيعين من أبناء اللاذقية". وبرأي زلحوط " فإنّ الخطورة تكمن في أنّ هذه المراكز الدينية تحوّلت إلى مراكز سياسية"، وتقدم خدمات اجتماعية.
وتضيف أنّ مفهوم المصلحة بدأ "خصوصاً مع اشتداد الحرب في سوريا وتدني الوضع المعيشي والحاجة إلى العمل، إذ تم استغلال هذا الموضوع من قبل رجال الدين في هذه المراكز، ليتم تحويل العديد من المباني في المدينة إلى مراكز للتشييع تنفيداً للخارطة الأكبر وهي الامتداد الإيراني في المنطقة".
توضح الصحفية وهي منحدرة من الطائفة العلوية، صعوبة تشييع العلويين بسبب الاختلاف الكبير في المذهب بينهم وبين الشيعة، لا سيما وأنهم "يتهمون الشيعة بقتل الحسين ويستنكرون ما يقومون به من إحياء لذكرى عاشوراء واللطم والضرب"، منوهة إلى أن معظم حالات التشيع هي شكلية من خلال الصلاة وطريقة وضع الحجاب، والهدف منها الحصول على بعض المكاسب، بينما تبقى الناس على مذهبها الأصلي.
وتابعت أن هناك أصوات كثيرة تعلو لتخلص العلويين من إيران وتقربهم الواضح من روسيا. وتشرح زلحوط أن الطائفة العلوية منقسمة بحسب المذهب إلى كلازية وحيدرية، وتقول أن عائلة الأسد نسبت نفسها إلى الكلازية، وبذلك بقيت الحيدرية بعيدة عن مراكز صنع القرار في سوريا، حيث تسلم الكلازيون معظم المناصب، وهم أيضاً من يتم التركيز عليهم في حملات التشييع.
من النشاطات داخل الرسول الأعظم - انترنت
حسب دراسة بعنوان "دور الشيعة في سوريا" للباحث الفلسطيني خالد سنداوي، صادرة عام ٢٠٠٩ عن معهد البحث الأمريكي هدسون إنستتيوت (ترجم موقع زمن الوصل مقتطفات منها)، فإن سوريا لم يكن بها نسبة كبيرة من السكان الشيعة، ولكن أشارت الدراسة إلى أن أوائل القرن شهدت زيادة في حالات التحول إلى المذهب الشيعي.
وحسب الدراسة فإن "تشجيع النظام في سوريا لنشاط التشيع الإيراني، قد يكون السبب الرئيسي لزيادة التشيع، ولكنه ليس السبب الوحيد" إذ تذكر الدراسة عوامل أخرى منها وجود سكان شيعة سوريين، قوة الإعلام الشيعي، والإغراءات الاقتصادية والتعليمية.
تمتد مدينة اللاذقية على مساحة تبلغ (58 كيلو متر مربع). وفي عام 2010 بلغ عدد سكان اللاذقية 400 ألف نسمة، حوالي 50 بالمائة منهم علويّون، و40 بالمائة سنّة و 10 بالمائة مسيحيون -معظمهم من الطائفة الأرثوذكسية حسب دراسة تحليلية صدرت عن معهد واشنطن عام ٢٠١٥. لكن هذا العدد من الممكن أن يكون قد تضاعف حالياً مع غياب وجود إحصائيات حديثة، وذلك جراء الحرب والنزوح، فبحسب احصائيات لـ "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا)، في عام 2015 توافد إلى اللاذقية 200 ألف شخص من النازحين داخلياً.
"هل أُصلي في البيت؟"
يعرب مصطفى عن مخاوفه على مدينته وبلده، ليس من الأذان الشيعي -على حدّ قوله- بل من الذين يقفون وراء الأذان، ويوظفون دور العبادة لمشاريع سياسية لا علاقة للدين بها. ويقول مازحاً: "يعني بصير صلي بالبيت؟" حتى لا يفاجئ بتحويل جامع آخر إلى مسجد يتبع المذهب الشيعي.
هذه المادة بدعم من منظمة أضواء