- Home
- مقالات
- رادار المدينة
إمارة داعش في جنوب دمشق
خلال الشهر الأخير، في جيب سيطرته المتركّزة في حيّ الحجر الأسود ومخيّم اليرموك وفلسطين وأجزاء صغيرةٍ من الأحياء المجاورة، فرض تنظيم داعش على الذكور البالغين إطلاق لحاهم، بعد أن كان أصدر في وقتٍ سابقٍ قراراتٍ صارمةً حدّدت الألبسة والهيئات المسموحة والممنوعة على الرجال والنساء.
بقرار إطلاق اللحى، الذي تولى خطباء الجوامع ودعاة التنظيم إبلاغ الناس به، سيشابه سكان المخيم والحجر، من جهة المظهر، سكان البقعة الشاسعة من الأرض التي تسيطر عليها داعش في سورية والعراق. في حين تفرض الظروف المكانية الخاصة لهذا الجيب على التنظيم قدراً محدوداً من التساهل مع المقيمين هناك، لا سيما في حركة التنقل وعلاقات العمل وبعض الشؤون الإغاثية والصحية، الممنوعة أو المقيدة إلى حدٍّ كبيرٍ في معاقل التنظيم الرئيسية.
دفعت أجواء الحرب وظروف الحصار التي فرضها نظام الأسد على جنوب دمشق مئات الآلاف من سكان المخيم والحجر إلى المغادرة، ولم يبقَ إلا من عجز عن ذلك أو فضّل البقاء في بيته. يقدّر عدد المقيمين اليوم في المنطقة الخاضعة لسيطرة داعش بنحو 10 آلاف نسمة. ويعدّ النازحون السوريون من هضبة الجولان، المحتلة من إسرائيل في العام 1967، المتحدّرون من عشائر شتى، واللاجئون الفلسطينيون القادمون على دفعاتٍ بدءاً من العام 1948، المكوّنين الأكثريين في تلك المنطقة، إلى جانب عوائل أو أجزاءٍ من عوائل تتحدّر من ريف دمشق القريب، ومن محافظة درعا بدرجةٍ أقل، وكذلك تكاثفٌ لوافدين من قرى الساحل السوري في بعض الشوارع. بناءً على خريطة السكان تلك، يصعب العثور على عوامل خاصّةٍ شجعت داعش على اختيار الحجر والمخيم لتقيم فيهما فرع خلافتها في جنوب دمشق، لتبدو الصدفة أو مجريات المعارك مع الجيش الحرّ، التي امتدت من الغوطة الشرقية إلى جنوب دمشق في ربيع 2014، العامل الرئيسيّ لذلك الخيار. فقد اضطرّت داعش إلى الانسحاب إلى حيّ الحجر الأسود، لتمتدّ، بعد عامٍ تقريباً، بتساهلٍ وربما بشراكةٍ من جبهة النصرة أو من بعض قادتها، إلى مخيم اليرموك وتخرج فصائل الجيش الحرّ منه. ثم لتنقضّ، قبل سبعة أشهرٍ تقريباً، على النصرة -التي طالما وفرت لها الحماية في جنوب دمشق- وتدفعها إلى الانكفاء في جزءٍ صغيرٍ من المخيم.
كما حدث في معظم الحالات في سورية، ولدت داعش في جنوب دمشق غداة إعلان قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في نيسان 2013، بانشقاق أو انتقال عشرات المقاتلين من جبهة النصرة إلى «الدولة» التي اتخذت آنذاك من بلدة يلدا معقلاً لها، بإمارة عبد الله طيارة، المشهور بأبو صياح فرّامة، الوجه البارز في النصرة، ابن يلدا ذي التاريخ الجهاديّ بين العراق وسجن صيدنايا. وتركزت اهتماماتها الظاهرة آنذاك في شؤون الدعوة بأسلوبٍ مسالمٍ يتجنب تكفير المقاتلين الآخرين، بل يعدّهم مجاهدين طالما كانوا يقاتلون النظام «النصيري». وشنّت، وحدها أو بالشراكة مع فصائل أخرى، هجماتٍ موفقةً ضد قوات الأسد على جبهات المخيم، وضد الميليشيات العراقية على الجبهات الأخرى. وتبنت تفجيراتٍ انتحاريةً عدّةً في بلدة السيدة زينب وغيرها في المحيط الخاضع لسيطرة النظام. وبعد أشهرٍ من تأسيسها انضمت داعش إلى تحالفٍ غير متينٍ لم يعمّر طويلاً أخذ اسم الرابطة الإسلامية، ضمّ أيضاً كلاً من جبهة النصرة ولواء الاسلام –آنذاك- وأكناف بيت المقدس وحركة أحرار الشام ولواء الأمة الواحدة ولواء شام الرسول. وتحت عنوان الرابطة نفّذت داعش أولى عمليات الإعدام العلنية، وهاجمت تشكيلاتٍ من الجيش الحرّ اتُّهمت وقتها بالفساد والعمالة لنظام الأسد. وسرّاً نشطت في زرع خلايا نائمةٍ في صفوف بعض الفصائل، أدّت مهماتٍ أمنيةً من خطفٍ وتجسسٍ واغتيال قادة هذه الفصائل.
خلال العام الأول من عمر داعش، ورغم حالة الفوضى والتسيّب التي عرفت بها بعض كتائب الجيش الحرّ في تلك المنطقة، لم ينجح التنظيم إلا في استقطاب عددٍ لم يتجاوز المئتين من المبايعين، لكنه نما بعد ذلك على صدى إنجازاته العسكرية وتمدده الكبير في العراق وفي سورية صيف عام 2014 وفي خريفه. وولّد إطلاق التحالف الدوليّ حربه الجوية على التنظيم، في أيلول من ذلك العام، شيئاً من التعاطف تبدّى في تخفيف حدّة العداء نحوه من بعض الفصائل. وكان للرواتب المنتظمة والسخية نسبياً التي تدفعها داعش للمنضمين إليها دورٌ في استقطاب المنتسبين في ظلّ مشاعر الإحباط وحالة الجوع والفاقة الناجمة عن حصار قوّات الأسد لجنوب دمشق، ليزداد، حسب تقديراتٍ محلية، عدد مبايعي داعش اليوم إلى 1000-1500. وهو رقمٌ كبيرٌ على «قاطع جنوب دمشق» –جزءٌ من ولاية دمشق- يكاد يقترب من عدد عناصر داعش في بعض ولاياتها.
إلى جانب أبو صياح فرّامة، أمير «القاطع» المعزول مؤخراً، كان لأمير داعش الحاليّ، أبو هشام الخابوري، ابن عشيرة البحاترة
النازحة (من بطن بحتر المنتمي إلى قبيلة طي) دورٌ بارزٌ هو الآخر في خدمة التنظيم، وخاصّةً خلال توليه القيادة العسكرية، وفي استقطاب العشرات -وربما المئات- من أبناء العشيرة، كثيرة العدد في جنوب دمشق، إلى التنظيم. وكذلك كان للعراقيّ الغامض المعروف بأبو سالم دورٌ هامٌّ جداً، لا سيما في الجانب الأمنيّ وفي شؤون الاتصال والتنسيق مع الحلقات الأعلى للتنظيم، قبل أن يخرج -حسب ما يقال- مع عددٍ قليلٍ من عناصر داعش إلى الرقة، ضمن صفقةٍ غير مكتملةٍ مع نظام الأسد، أواخر العام الفائت. كما أسهم حسام الحلبي، المعروف بأبو مجاهد (من بلدة حجّيرة)، نائب الأمير السابق، وأمير مجلس شورى المجاهدين في المنطقة قبل انضمامه إلى داعش فور إعلانها، مساهماتٍ رئيسيةً في انتشار التنظيم جنوب دمشق.
رغم اضطراب أحوال داعش بفعل الهزائم المدوّية التي تمنى بها في سورية والعراق، تبدو سيطرتها على مخيم اليرموك والحجر الأسود مستقرّةً إلى حدٍّ كبير، خاصةً مع عجز فصائل الجيش الحرّ في بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة عن تجديد المواجهات معها، لانشغالها بقضية المصالحة -رفضاً أو قبولاً- المنعقدة مع النظام في تلك البلدات. وتخلو جبهات داعش مع قوات الأسد من معارك جدية، عدا بعض عمليات القنص التي تستعملها داعش غالباً لأغراض الدعاية في إصداراتها المصورة. بل تؤكد أنباءٌ متكرّرةٌ وجود خدماتٍ يقدمها نظام الأسد بمرور بضائع، وخروج وعودة مرضى من أُسر قادة التنظيم وجرحى من منتسبيه، عبر حاجز العسالي، للعلاج في مشفى المهايني في حيّ الميدان الخاضع لسيطرة النظام. وعبر الحاجز ذاته، حسب أنباءٍ أخرى، يخرج قادةٌ من التنظيم مع عشرات العناصر، بين حينٍ وآخر، مروراً بمناطق سيطرة النظام في دمشق، إلى أراضي داعش على أطراف بادية الشام، وصولاً إلى الرقة أو دير الزور أو العراق.
خلال النصف الثاني من عام 2012 نجحت فصائل الجيش الحرّ في تحرير أحياء وبلدات (اليرموك؛ التضامن؛ فلسطين؛ الحجر الأسود؛ سيدي مقداد؛ يلدا؛ ببّيلا؛ بيت سحم؛ حجّيرة؛ البويضة؛ سبينة؛ القدم؛ العسالي؛ جزء من البهدلية؛ جزء من السيدة زينب) في حيّزٍ جغرافيٍّ واحدٍ عرف بجنوب دمشق. قبل أن يشنّ النظام سلسلة هجماتٍ استعاد بها السيطرة على أجزاءٍ كبيرةٍ من هذه المنطقة، بالتزامن مع حصارٍ خانقٍ بدأ مطلع 2013، ولم يُخفّف إلا بقبول الأطراف الفاعلة في كلٍّ من يلدا وببيلا وبيت سحم عقد مصالحةٍ مع النظام، في شباط 2014، تضمّنت حضوراً شكلياً له داخل هذه البلدات، مع وقف فصائل الجيش الحرّ هجماتها من هناك.