- Home
- مقالات
- رادار المدينة
إحياء ذكرى الثورة السورية.. أول الحب
يُعطي احتفال الخامس عشر من آذار انطباعاً إيجابياً يجدر البناء عليه، من ناحية لأنّ "سوريي الداخل" قدموا صورة للمناطق التي يعيشون فيها تختلف عما تقدمه الفصائل التي تتحكمُ بحيواتهم، ولأنّهُ أظهرَ أنّ انتماءهم لم يتبدّل على الرغم مما يُشاعُ عنهم أنّهم "يبدّلون انتماءاتِهم تِبعاً لمن يحكمهم". كما لناحيةٍ جوهريّة هي أنّ قضيّتهم التي خرجوا من أجلها قبل أحدَ عشرَ عاماً ويُحيونَ ذكراها اليوم، لم تنتفِ عنها الراهنية: ما زالَ مُسبّبها في مكانهِ بينما نزح معظمُهم. وعلى الرغمِ من أنّ النتائجَ الحالية قاتمة، إلّا أنّ القضيّة السوريّة لدى هؤلاء لا يُمكنُ أن تنتهي بما هي عليه.
من المُستحيلِ على سوريين يعيشون اليوم في مناطق سيطرة النظام إحياء ذكرى انطلاقِ الانتفاضة التي قلبت كيان السوريين رأساً على عقبٍ، وأعادت طرحَ تساؤلاتٍ ونقاشاتٍ وأفكاراً كان من المستحيلِ طرحها خلالَ عقودٍ خلت، رغم انتماء شريحة واسعة منهم لهذه اللحظة التأسيسية في تاريخ التغير السوري.
أما "سوريو الشتاتِ" الذين لهم من وصفهم نصيب وافر، فيعيشون شتاتاً حقيقيّاً يجعلهم أقلّ قدرةً على إحياء ذكرى الثورة بزخمٍ يُوازي قيمتَها وأهميّتها، لاعتباراتٍ كثيرةٍ تتعلّقُ بنمطِ الحياةِ الضاغط الذي في "دول العالم الأول" والذي يسرقُ الوقتَ والطاقةَ والمشاعر، ناهيكَ عن الرضّ النفسيّ الهائل الذي يصيبُ شخصيّةَ اللاجئِ الناجي من مذبحةٍ مثل المذبحةِ السورية، بالإضافةِ إلى صعوبةِ التجمّع بحُكمِ المسافاتِ المتباعدة وتكاليف المواصلات المُرتفعة، من دون أن ننسى ذلكَ الاسترخاء والكسل الذي يسمُ الحياةَ الوظيفية عموماً.
شريحةُ سوريي مخيّماتِ اللجوء في دول الجوار السوري، يكادُ يكونُ من المُستحيلِ مُطالبتها بشيء؛ مأساةُ سكّان مخيّمات اللجوء -إذا افترضنا أنّ الحياةَ التي يعيشونها ليست مأساويةً أصلاً- أنّ قدرتهم على السخطِ والغضبِ مما هم فيهِ معدومة، أي أنّهم يعيشونَ في ظروفٍ قاهرة ولا يُمكنُهم التعبير إلا داخلَ خيامهم، فالدولُ التي تستضيفُهم لا تُرحّب بانتقال سخطِهم إلى ما وراء الخيام.
واستناداً على ما سبق، فلعلّ الشريحة الأكثر قابليّةً للاحتفاء بالثورةِ السوريةِ وإحياء ذكراها، هي تلكَ التي تعيشُ اليوم في المناطق الخارجة عن سيطرةِ النظام. فالاحتفالُ الذي جرى يوم الخامس عشر من آذار في مركز مدينة إدلب (إضافة إلى احتفالاتِ مجتمعاتٍ محلية تعيش في درعا وتحت سلطة "قسد"): التظاهرةُ الكبيرة والمشاركة الواسعة من الجنسين، الشكلُ الكرنفاليّ الذي أخذتهُ المظاهرة.. تفاصيل تصعبُ رؤيتُها في أيّ مكانٍ في العالم سوى في المناطق المحررة.
روى لي صديقٌ يعيش في خيمةٍ في "المناطق المحررة" شمال غربي سوريا، أنّ الاستعداد لإحياء ذكرى الثورة يبدأ منذُ شهرِ شباط، تخيطُ النساءُ أعلاماً ويحكْنَ أوشحةً من الصوفِ ملوّنةً بألوانِ العلم، وتأخذُ الحياةُ اليومية قُبيل منتصف آذار شكلَ الأعياد. صديقي مثلاً سافرَ على درّاجتهِ الناريّة قرابةَ ثمانين كيلومتراً حتّى وصل مركزَ مدينة إدلب للمشاركة في المظاهرة، قالَ أن الحواجز طوال الطريق الموصل إلى إدلب كانت توزّعُ الحلويات على العابرين بحافلاتِهم ودراجاتهم إلى الاحتفال.
ينطوي الاحتفالُ باليومين المُتنازع عليهما لانطلاقة الانتفاضة (١٥- ١٨ آذار) عندَ سوريي الثورة على إدراكٍ عميق لضروريّةِ تلكَ اللحظات من آذار ٢٠١١، وما تحملُهُ من وعودٍ بنهايةِ الظلم الذي وقعَ عليهم وعلى بلادهم، وما يستتبعُه هذا الإدراكُ من أنّ الوقوفَ إلى جانبِ ثورةٍ في وجه "الأبد الأسدي"، سيُعدُّ قيمةً مضافة لأي شخص.
في ساحةِ المظاهرة الاحتفالية في وسط مدينة إدلب، سُئلت سيدةٌ مُشاركة تتلفّع بأعلامَ الثورة وتلفّها على عنقها بشكلٍ لافتٍ عن سببِ مجيئِها رغم سنِّها، فقالت أنها فقدت في الثورةِ سبعة أبناء، وعلى الرغم من ذلك، بل ربّما بسبب ذلك، جاءت كمن يؤدّي واجباً لا يُمكنُ التخلّي عنه. في العمق إذاً، فإنّ التنازعَ ذاتَهُ على اختيارِ يومِ البداية فيهِ تنافسٌ محمودٌ على الظفرِ بأسبقيةِ إطلاق هذا الحدث الذي غيّر شكلَ بلدهم وقلبَ حياتهم رأساً على عقب.
إحياء ذكرى الثورة سنوياً بالشكلِ الكرنفاليّ الذي اتخذهُ في إدلب، يجعلُ أولَ ما يتبادر إلى الذهن تلك الجملةُ التي كتبها محمود درويش في قصيدتهِ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة"، تلكَ الالتقاطة المرهفة التي اعتبرها مُحقاً من بين مبررات الحياة على هذه الأرض: "أوّلُ الحبّ".
لعلّهُ يصحُّ اعتبار الحنين إلى أولِ أيّامِ الثورةِ، وإحياء ذكراها سنويّاً، حنيناً إلى أوّلِ الحبّ، ذلكَ الذي بسببهِ، ولأسبابٍ أخرى فإنّ: على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة!