- Home
- مقالات
- رادار المدينة
أنت.. أيها النازح
يأتي صوتها الرزين الرقيق، بعد أن تطمئن إلى معرفتها بعائلتي: «والله يا ابني إحنا عندنا مصاري وقدرنا نطلع تهريب, الشقى على من بقى وما عنده مصاري».
تصمت السيدة أُم صالح لبرهة تكفي لابتلاع الغصة, ثم تمضي: «ماتت حفيدتي ذات الستة أشهر بين يدي اختناقاً, وامتلأ ظهري بالشظايا, وتكسرت ساقا ابنتي, حين قصف التحالف منزلنا في الميادين. بعدها كان لا بد من الرحيل بحثاً عن علاج. خرجنا بسيارتنا بعد أن دفعنا 600 دولار لأحد عناصر التنظيم ليساعدنا على الفرار من سجننا الكبير في مناطق سيطرة داعش إلى سجننا الصغير في مخيم قانا, في حين كان على الآخرين المشي أكثر من عشر ساعات ليلاً».
في العبور سيراً على الأقدام فقد محمد يعقوب والدته وابنته وزوجته نتيجة العطش, بعد أن تاهوا في البادية, في حين وُجد هو وابنه مغمى عليهما بعد رحلة طويلة تلخص حال الكثيرين من أبناء الشرق السوري الهاربين من مناطق سيطرة التنظيم إلى مناطق سيطرة قسد.
في مخيم قانا، أو السد، الواقع جنوب الحسكة، يقطن الآن ما يزيد على 25000 نسمة. لكن الحاجة أم صالح، وبخفة دم الجدّات تقول: «كنا من مؤسسي المخيم. كانت الخيام قليلة وجديدة, ولا أسوار تحيط بها, لكنها -أي الخيام- أخذت بالتزايد مع تزايد الوافدين بمعدل 200 إلى 300 شخص يومياً. حتى أصبحت ترى أكثر من عائلة في خيمة واحدة, وبعض العائلات لم تعد تجد خياماً فنامت في العراء تحت غطاء لا يقي شمس الصيف.
أخذ القائمون على المخيم -وهم من الإدارة الذاتية- جميع وثائقنا الرسمية من هويات وجوازات سفر, ومنعونا من الذهاب إلى المشفى حتى بعد رؤية إصاباتنا وتقاريرنا الطبية, وأخبرونا أن جميع السيارات مصادرة لا يحق لنا بيعها أو إخراجها من المخيم. لا حمامات ولا دورات مياه, كنا نذهب إلى بحيرة السد القريبة كي نقضي حاجتنا ونغتسل. مياه الشرب التي تأتي بالصهاريج ملوثة, فانداحت الحُمى المصحوبة بإسهال شديد, ومات خمسة أطفال إثر ذلك. بعض المنظمات توزع أسبوعياً حصص معلبات يعيش عليها الناس, وتوزع يومياً رغيف خبز واحد فقط لكل شخص. لكن سيارات تبيع الخبز والخضار والمياه والثلج كانت تحضر يومياً لتجمع مبالغ خيالية من الميسورة أحوالهم, فقالب الثلج بـ1800 ليرة سورية, وربطة الخبز بـ250 ليرة, وقنينة مياه الشرب سعة 1.5 لتر بـ100 ليرة. وحين تغضب الإدارة تعاقب المخيم بمنع تلك السيارات من الدخول».
يشرف أطباء من الهلال الأحمر الكردي على المخيم, لكنهم لا يفعلون شيئاً: «حبة سيتامول ما بي يا ابني». وحين حضر أحد مسؤولي الإدارة الذاتية (كردي تركي لا يتكلم العربية) لتفقد الوضع, قامت مظاهرة هددت بحرق المخيم إذا لم يتم تحسين أوضاعه, فكان رده المُترجَم عبر إدارة المخيم: «إما أن تقبلوا بالوضع كما هو أو نعيدكم إلى داعش». ولشدة معاناة الناس طالبوا بإعادتهم إلى داعش, فاعتقلوا الشباب البارزين في المظاهرة وأخرجوهم بعد عدة أيام منهكين من التعذيب بعد أن وقعوهم على تعهد بعدم التظاهر.
بعد ثلاثة عشر يوماً خرجت عائلة أبو صالح من المخيم: «كنا خمسة, أنا وابنتيّ وصهري وأبو صالح. دفعنا ألف دولار، بمعدل 200 عن كل شخص، لأحد المتنفذين حتى قبل بتهريبنا بسيارتنا إلى قرية «عجاجة» القريبة, وهناك دفعنا 400 دولار عن السيارة لأحد المهربين حتى أدخلنا إلى مدينة الحسكة, ومن هناك دفعنا 150 دولار عن كل شخص حتى وصلنا مدينة الباب. لكن قبل هذا تأتيك العوائل التي لا خيمة لها تطلب أن تحل محلك بعد أن ترحل, عليك أن ترى عيونهم وهم يحلمون بخيمة».
توصيني أُم صالح بمن بقي هناك في المخيمات قبل أن تقفل الخط: «قد يمكن احتمال كل ما قلته لك لولا المحاولات الدائمة من الإدارة لإهانتنا وإذلالنا, والمرفقة دوماً بصيغة المخاطبة المتعالية: «هي إنتَ.. يا نازح».