- Home
- مقالات
- رادار المدينة
أمهات قاصرات تحت غطاء شرعي وقانوني
«للطفل الحق في التعلم والصحة واللعب» لا الزواج. تلك الحقوق المكفولة بموجب مواثيق الأمم المتحدة، التي حددت تعريف الطفل بـ «كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر من العمر»، والمنتهكة في واقعنا السوري بمختلف أطيافه. ليغدو الزواج المبكر أو زواج القصّر أهمّ تلك الانتهاكات، بغطاء قانوني وشرعي، دون الوقوف على الآثار الإيجابية والسلبية لما يخلّفه هذا الزواج، على الصحة النفسية والبدنية وبنية المجتمع.
أمام مشفى النسائية والتوليد في مدينة إدلب، حملت أم محمد حفيدتها الصغيرة بمراسم جنائزية. لم توزع الحلوى كعادة أبناء المناطق الريفية فرحاً بالمولودة الجديدة. ضمّت صغيرتها التي أصبحت يتيمة الأبوين قبل أن تصرخ صراخها الأول، واكتفت بالنحيب. «إيمان صغيرة..كل الحق عليي»، تلك الكلمات التي رافقت أم محمد وهي تلوم نفسها على تزويج ابنتها ذات الثلاثة عشر ربيعاً، «ما حدا رضي يستقبلا، القابلة قالت انو جسما ضعيف ولازما قيصرية، لسا بالشهر السابع». روت الجدّة وهي تنظر في وجه حفيدتها وتغص بدموعها «من شهرين استشهد أبوها واليوم ماتت أمها، شو كان لازم أعمل، أنا أرملة وعندي خمس بنات، اجا نصيبا وزوجتا، يا ريتني ما جوزتا».
إيمان ليست غريبة عن أقرانها من الفتيات، فالكثيرات في سوريا يشاركنْها الحال نفسه، وإن كنّ لم يشاركنها المصير ذاته. إلّا أن ظاهرة الزواج المبكر قد تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى القاعدة، في الوقت الذي صار فيه زواج الراشدين (فوق 18 سنة) هو الاستثناء. تقول الطبيبة صبحية الأحمد «أكثر من 50% من النساء اللاتي تراجعن عيادتي هم دون سن 18، بينهن عدد لا بأس به من القاصرات دون سن 15».
دعاء طفلة في الخامسة عشر من العمر، كانت تحلم منذ سنة ونصف السنة بأن يصبح لديها «جهاز خليوي حديث وواتس آب»، كان ذلك الدافع لها للقبول بالزواج بعد أن حقق لها زوجها ذلك الحلم. اليوم، تحمل دعاء طفلها الأول «كثير بنسى أنو عندي ولد، لما بيبكي بظن أنو الصوت جاي من مكان بعيد». تطقطق دعاء بسرعة رسائل على الواتس آب، تاركة طفلها يلهو في ساحة البيت دون مراقبة. تضحك أمها وهي تقول «ولد بدّو يربي ولد». في الوقت الذي تحاول فيه رابعة طرق أبواب المحاكم الشرعية لتسجيل طفلها بعد أن مات زوجها المهاجر في إحدى المعارك، وترك طفلها مجهول النسب.
تتعدد الأسباب التي فاقمت من انتشار هذه الظاهرة في سوريا، تتصدّرها ظروف الحرب التي عززت من الثقافة الاجتماعية الموروثة، والتي اعتبرت أن شرف المجتمعات مرتبط بالحفاظ على شرف الفتيات، لتغدو كلمات من مثل «زوجناها لنستر عليها» والدعاء «الله يستر عليكي» و «الله يبعتلك نصيبك ويريحني»، هي الكلمات الأكثر شيوعاً بين الآباء. يقول المدرس محمد الأسعد (مرشد نفسي) «الخوف من جسد المرأة وتصرفاتها، مع انعدام الأمن والقانون في سوريا، شكّل عقدة عند معظم الآباء. وهذا ما أدى بهم إلى تزويج بناتهم كيفما اتفق، دون الوقوف على شرط السن والكفاءة». وأدّى عدم القدرة على توفير الأمن المرافق للحرب إلى خلق حالة من عدم الاستقرار الفكري، ما دفع الكثير من الآباء إلى الارتماء في حضن الفتاوى الشرعية، التي تبيح ظاهرياً الزواج المبكر، دون أن يقف المشرعون الجدد على روح القوانين الشرعية، والشروط المرافقة لها من الأهلية والاستقرار، واختلاف الظروف والفتاوى بحسب البيئة الجغرافية والاجتماعية.
ولا يقل الوضع الاقتصادي للأسر اللاجئة والنازحة، وحتى تلك التي بقيت في مناطقها، أهمية عن ظروف الحرب، في انتشار هذه الظاهرة. وهذا ما دفع الكثير من العائلات لتزويج بناتهم للتخلص من تكاليف الإعالة القاسية، وفي كثير من الأحيان، تزويجهن لرجال من أصحاب المال أو المناصب العسكرية، بما يعود بالفائدة على الأسرة، دون التوقف عند شرط السن، أو حتى القبول بتزويج فتياتهم كزوجة ثانية أو ثالثة، أو لأشخاص مجهولي النسب كـ «المهاجرين» الذين أتوا للقتال في سوريا، دون العودة إليهن للقبول أو الرفض.
يُضاف إلى تلك الأسباب، انعدام التعليم وخروج معظم الفتيات من المدارس في السنوات الأخيرة، وانعدام الحملات التوعوية بمخاطر الزواج المبكر، وغياب الرادع القانوني، ما دفع الفتيات أنفسهن للرغبة في الزواج بدافع العاطفة المحضة، دون المحاكمة العقلية، أو بعقل طفولي تدفعه الغيرة والفضول، في بيئة باتت ترى في تأخر سن الزواج ما يشبه «العنوسة»، فـ «الاحتياط واجب» و «المرة لبيتا وزوجا» و «ما ضل شباب كلهون هاجروا أو ماتوا، منيح الي إجاها عريس»، يقول بعض الذين التقيناهم.
أرقام صادمة
يقول أحمد الشبلي (رئيس شعبة السجل المدني في ريف حلب الغربي) إن«500 حالة زواج تم تسجيلها في سجل مدينة حلب دون ريفها عام 2017، منها 225 حالة لفتيات دون سن 18 بنسبة 45%، و80 حالة زواج دون سن 15بنسبة 16%». وأما في عقود الزواج الغير مثبتة في المحاكم (عقد شيخ) فتزيد النسبة على ذلك.
وبحسب إحصائية لوزارة العدل السورية 2006، فإن نسبة الزواج للفتيات دون سن 15 كانت 3% في عموم سوريا، و18% للفتيات دون 18، لترتفع النسبة اليوم إلى 33% في مناطق النظام. إذ يثبّت 15 عقد زواج مبكر يومياً، من بين 50 عقد في مدينة دمشق. وتصل هذه النسبة من النازحات السوريات في الأردن إلى 35%، وفي لبنان إلى 32%، وفي مصر 25%، بحسب إحصائيات قضائية وإحصائيات تابعة للأمم المتحدة في عام 2015، في حين تتجاوز النسبة 50% في مخيمات النزوح السورية، وما يقاربها في المخيمات التركية.
وكانت الأمم المتحدة قد وثقت في تقريرها عن زواج الأطفال 2018، أكثر من 650 مليون امرأة في العالم، معظمهن من البلدان الفقيرة والنامية، بنسبة واحد إلى ثلاثة. كما وثقت موت 70000 (من الفتيات اللواتي تزوجن باكراً) إثر عمليات الولادة والحمل.
قوانين...ولكن
تنص المادة 16 من القانون السوري على أن «أهلية الزواج تكتمل في الفتى بتمام الثامنة عشر من العمر، وفي الفتاة بتمام السابعة عشر». إلّا أن لهذا القانون استثناءات تحددها المادة 18 من القانون نفسه «إذا ادّعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشر، أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشر، وطلبا الزواج. يأذن به القاضي إذا تبين صدق دعواهما واحتمال جسميهما». كما تحدد المادة 40 قبول تثبيت الزواج لمن هم دون سن18 «في حال كانت المرأة حاملاً». وتعتمد المحاكم في مناطق نظام الأسد على هذا القانون، بالإضافة إلى بعض المحاكم في المناطق المحررة. كما تعتمد محاكم الريف الغربي والشرقي في مدينة حلب على القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية، الذي ينص في المادة 11 منه «إذا طلب من أكمل الخامسة عشرة من العمر الزواج، فـ للقاضي أن يأذن له به، إذا أثبت قابليته البدنية وبعد موافقة وليه»، بحسب المحامي عبد الحميد بكور.
في حين تعتمد المحاكم الشرعية في محافظة إدلب، على القانون الشرعي، والذي يحدد البلوغ كشرط للزواج يقدّره القاضي من خلال الشكل الخارجي، وبعد موافقة وليّ الأمر. بحسب محمد قباقبجي النائب العام في محكمة إدلب.
على الرغم من إجماع معظم قوانين الأحوال الشخصية العربية على تحديد الحد الأدنى للزواج، إلّا أن هذه الاستثناءات حالت دون تطبيق هذه القوانين، للحد من انتشار هذه الظاهرة. بالإضافة إلى ضعف العقوبات الرادعة لرجال الدين الذين يعقدون الزواج لقاصر لم يتم الثامنة عشر من العمر، ودون تدوين رضى الولي، إذ اقتصرت بحسب المادة 469 من القانون لسوري، بغرامة مالية من (100-250) ليرة سورية.
آثار صحية
تقول الطبيبة صبحية الأحمد، إن اكتمال الأعضاء التناسلية عند الأنثى واستعدادها للحمل، غالباً ما يتم في العشرين من العمر. وهذا ما يجعل احتمال الإجهاض أو الولادات المبكرة أكبر عند الفتيات دون هذا السن، وما يترتب عليه من أضرار قد تؤدي إلى التداخل الجراحي –عملية قيصرية-بالإضافة إلى النزوفات الحادة، وارتفاع ضغط الدم، وربما الموت. فالفتيات بعمر 10-15 سنة معرضات للوفاة أثناء الحمل والولادة أكثر بخمس مرات من النساء بين 20-24. كما يؤدي غالباً إلى عدم تمكن الأم من الإرضاع، بالإضافة إلى الآثار النفسية وحالات الاكتئاب.
تغيب الحملات التوعوية لمخاطر الزواج المبكر في سوريا، إذ تكتفي بعض المنظمات المعنية بالحديث عنها في مجمل نشاطها التدريبي، بحسب نسيم توتنجي مديرة اتحاد نسائم سوريا. في الوقت الذي تزداد فيه الآثار السلبية لتلك الظاهرة وخطرها على الفرد والمجتمع.
الرأي الشرعي وجوهره
ذهب الأئمة الأربعة إلى جواز عقد الزواج في سن البلوغ، وهو الحيض عند المرأة والفوران عند الرجل، بموافقة ولي الأمر (الأب –الجد) برضاهما أو من غيره.
إلّا أن الدكتور مصطفى القضاة (كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة اليرموك) يرى في كتابه (التبكير في الزواج والآثار المترتبة عليه)، أن الشريعة اكتفت بتبيان مقاصد الزواج ومعانيه، فهو عقد نكاح وشراكة. وتركت للأفهام السليمة والفطرة السوية أن تحدد ما يحقق المصلحة في ضوء ذلك. وعلى الرغم من رجوح قول الأئمة لاعتمادهم على النص الشرعي، إلا أن جمهور العلماء رأوا: وإن كانت الشريعة الإسلامية تقر جواز زواج الصغير والصغيرة، فإن ذلك لا يعني أن يكون هو الأصل. فالأصل في الزواج هو الرضا ووجود السكن والمودة بين الطرفين، كما أن الشريعة لا تسمح بالإكراه، فمن باب أولى أن يكون ذلك في الزواج، لما يترتب عليه من آثار خطيرة على الفرد والأسرة والمجتمع.