- Home
- مقالات
- رادار المدينة
آخر فرسان المدينة
ودّعت حلب فرسانها. أغلقت الباب وراءهم وانزوت تستمع إلى صدى أغانيهم التي ملأت الأزقة وتداوي جراح أرصفتها وتلعب وحيدةً بثلج المقابر. رائحة الموت وحدها تضجّ في ملامحهم القاسية، وأعينهم الدامعة ترسم تغريبتهم الجديدة ونزوحهم الأخير. بعضهم خرج إلى الحياة ورأسه ممتلئةٌ بآلاف القصص، وبعضهم آثر البقاء في شوارع المدينة التي ابتلعته.
«ما أخدت معي مفاتيح بيتي»، قالها أبو محمد وهو يردّ على الرسائل الصوتية الكثيرة التي أرسلتها إليه دون مجيب، ثم أكمل: «فكّرتك عبتتصل فيني لتعزمني على مظاهرة. بتتذكر يا أستاذ وقت كنت تخبّرنا؟ خمس سنين راحوا هيك، كل شي راح، كل الناس الي استشهدت، كل الناس الي اعتقلت، كله راح».
غصّ بالدمع وتركني بارداً كالثلج. أردت أن أسأله عن رحلته ولكن إشعاراً وصلني بتسجيلٍ صوتيٍّ من أبو محمد، الشاب الأميّ الذي كان يعمل في «الخراطة» قبل الثورة، ليتحول بعدها إلى ناطور المدينة، تجده على كل الجبهات والابتسامة لا تفارق وجهه النحيل. انتظرت حتى أسمع الصوت كيلا أقتل كلماته. كان حزيناً وهادئاً: «ودّعت قبر أخوي، ومشيت في الشوارع القديمة. وقفت على باب بيتك ودقيت، ما فتحتلي. كتير ناس كتبت ع الحيطان بس أنا ما بعرف أكتب، جبلت طين ولزقته ع الحيط، يمكن التراب أهم من الكتابة. حرقت السيارة والبيت، ما بدي حدا يدخل على بيتي، ما بدي الشبّيحة يشموا ريحتنا».
استوقفني التسجيل والصورة التي أرسلها لسيارته التي أضرم النار فيها ليحرق وراءه كل المراكب كي تهدأ روحه، ليحرق الخذلان الذي اعتراه والعجز الذي لم يزره يوماً منذ دخول الثورة إلى باب بيته واستقباله لها بكلتا يديه وروحه. أرسلت له دون أن أعي: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فردّ برسالةٍ صوتية: «نسيت أنو ما بعرف أقرا؟ يمكن خلص الحكي».
قمت إلى مفتاح بيتي الذي جلبته معي من حلب إلى منفاي ورميته من النافذة ليبتلعه الثلج. هذه المرّة لم تفلح مدفأة الفحم في تدفئة عظامي، كان البرد يتسلل إلى داخلي فأرتجف كقشةٍ في مهبّ ريح.
الاطمئنان على من تبقى في المدينة كان الهاجس الذي يسيطر عليّ. قلت في نفسي فلتهدم كل الحجارة ويبقى أولئك الفرسان. تسمّرت أمام شاشة التلفاز أنتظر خبر خروجهم، لم يبق في المدينة سواهم، أعرف أنهم ربما سيتخذون قراراً جماعياً بالموت، هم الذين عاهدوا الله على البقاء حتى النهاية. هل سيذكر التاريخ أن رجالاً أهدوا أنفسهم للموت لنعيش؟ وهل كنا نستحق؟ هل سنرثيهم على صفحات الفيسبوك، ونتبادل صورهم ونؤلف الحكايا عنهم، ثم سنعود إلى طوابير الإغاثة ونتشاجر من أجل كروت «الدانماركية والذهبية والهلال الأحمر»؟
أيقظ قلبي صوت هاتفي من جديد. كان أبو إسماعيل، الممرّض الذي رافق الثورة في كل مشافيها، بوجهه الأبيض المستدير وكلماته الحنونة يحمل الأشلاء ويخيط الجروح ويتنقل في المشفى بصدريته البيضاء المليئة بالدم، وحين يجلس ليستريح مع سيجارته كان يأتي إلى صيدليتي القريبة، يطلب فنجاناً من القهوة ويبكي.
«راحت حلب يا صديقي، هجّرونا»، وكأنه يعتذر عن نجاته وتركه المدينة تضمد جراحها وحيدة. «الضرب كان كتير. أيام ما وقف ولا لحظة؛ راجمات، صواريخ، براميل، قصف. بتعرف بيت أم سليمان؟ حوّلناه لمشفى ميداني». اكتفيت بـ«أعرف يا صديقي، الحمد لله على سلامتك». أجابني: «ليتني لم أنج. الجثث تملأ الشوارع، مررنا بالقرب منها، لم نستطع فعل شيء. في الحافلات كان كل شيءٍ يبصق في وجوهنا، مجرّد النظر إلى وجوه الشبّيحة كان له فعل البصاق أيضاً. الناس ما عادت تحتمل كل هالموت والذل». أردت أن أخرجه من الحزن الذي أعرف جازماً أنه سيبقى كعلامةٍ فارقةٍ حتى العودة فسألته: «اشتريت دخان؟»، فأجابني: «لم يعد هناك وقتٌ للتدخين... لقد أقلعت عنه، أريد لقلبي أن يمتلئ بالحزن».
أرق الأسئلة -التي لم يفلح حب المنوّم في إبعادها عن عقلي المكتظّ بالقلق- وضعني أمام نفسي عارياً. ما الذي حمله فرسان المدينة في كيس المسافر؟ وما الذي ستعنيه الجهات لهم؟ هم الذين اختارتهم الجهة الشرقية لتستعيد امتدادها ووجودها الكثيف أمام طغيان الغرب ومبانيه وفكره وخذلانه الدائم لهم. في حلب الشرقية عليك أن تكون ثائراً لتعيش في أرضها القاسية وتمارس دورك في الحرّية لا التحرر.
كيف تحمل هذه الجهة من المدينة كل هذا الوفاء؟ أوليست غريزة الإنسان تقوم على الحياة وحبها وتكره الموت؟ هل سيتكفل الزمن بمداواة بعض جراح فرسانه؟ كيف يمكن لمن قالها من قلبه ذات يومٍ حرّية أن يتنكر لها أو أن تهدأ روحه دون أن يطلقها لتملأ السماء؟!!