- Home
- مقالات
- رادار المدينة
«تشيعوا.. ما تشيعوا.. لسا ما تشيعوا..» .. عن ديرالزور والدور الإيراني
يرى ناشطو المنطقة الشرقيّة نفوذ روسيا وإيران المتنافستين عليها احتلالاً، إلا أنهم يمايزون بين أثرهما المحتمل على المنطقة مستقبلاً، حيث يُجمِعون على خطورة الدور الإيراني الهادف إلى تغيير هويّاتي على المدى الطويل، مقارنة بالدور الروسي المقتصر على التبعية السياسية، ما دفع عديداً منهم إلى التصريح غير مرة بتمنيهم انتصار الروس في معركة النفوذ على حساب الإيرانيين. لكن هذا الاتفاق لا يلبث أن يتحول انقساماً عندما يصل الأمر إلى تقييم نجاح المساعي الإيرانية، ففي الوقت الذي يرى فيه بعضهم أن الإيرانيين ورغم كل الجهود المبذولة لم يحققوا أياً من أهدافهم في المنطقة، يرى آخرون أنهم ينجحون حتى الآن في استمالة أهاليها.
منذ سيطرة نظام الأسد مع مشغِّليه الرّوس والإيرانيين على مدينة دير الزور والأجزاء الواقعة جنوب نهر الفرات من ريفها أواخر عام 2017، والحرب على النفوذ في المنطقة مستعرة بين الجانبين الإيراني والروسي، يتّخذ كلّ منهما فيها وسائل مختلفة تتّسق غالباً مع طريقته في العمل. فبينما يحاول الجانب الروسي بسط سيطرته على المواقع النفطية والمقرات الحكومية والإدارية الأساسية، إضافة إلى القطعات العسكرية النظامية ضمن التراتبية الرسمية لجيش نظام الأسد، ركّز الإيرانيون على استمالة شيوخ العشائر وبناء الحسينيات والمعاهد الدينية التبشيرية ذات الجهود الإغاثية، مع نشر الميليشيات غير النظامية التابعة بشكل مباشر أو شبه مباشر للحرس الثوري الإيراني وتجنيد الأهالي فيها مقابل رواتب مغرية نسبياً، بغية تحويل قاطني المنطقة إلى التشيّع المذهبي ومن خلفه السياسي.
الدور الإيراني التبشيري في دير الزور
في أواسط عام 2018 افتتح الحرس الثوري في مدينة ديرالزور في حي القصور "المركز الثقافي الإيراني"، والذي يشرف عليه "الحاج صادق" وهو إيراني من مرتبات الحرس الثوري، إضافة إلى إعادة افتتاح الميليشيات عدداً من الحسينيات في المنطقة أو بنائها، أبرزها الحسينية الموجودة في موقع عين علي الأثري، والتي تحولت إلى مزار يستقبل وفوداً من "الحجاج" الشيعة من محافظات أخرى إضافة إلى العراق وإيران.
وتؤدي الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة أنشطة تبشيريّة مدعومة إغاثيّاً وخدمياً لاجتذاب السكان المحليين المَعُوزين، كما تفتتح بشكل دوري مدارس دينية بغية تشييع الأهالي خاصة في مراحل عمرية مبكّرة، كان آخرها مدرسة في مدينة الميادين للأطفال بين سني السادسة والعاشرة، كما تعطي دروساً دينية في عدد من مساجد مدينة البوكمال بشكل يومي للأطفال بعد صلاتي العصر والمغرب.
ويُعدّ الحرس الثوري الإيراني وحركة النجباء وحزب الله السوري ولواء القدس أبرز هذه الميليشيات، وتنتشر بشكل مكثّف إضافة إلى مدينة ديرالزور في مدينتي الميادين والبوكمال وفي بلدات حطلة وصبيخان وبقرص والطوب وموحسن والصالحية ومنطقة عين علي والشريط النهري في بلدة العشارة.
موقف أهالي المنطقة من التشيع المذهبي
لا يبدو أن هناك أيّة أرقام حقيقية اليوم عن أعداد المتحوِّلين إلى التشيّع في المنطقة الشرقية مؤخراً، فطالما لفّ الغموض أنشطة إيران التبشيرية في سوريا منذ نجاح ثورة الخميني، لكن عبدالرحمن الحاج في كتابه "البعث الشيعي في سوريا" يحصي أقلّ من خمسة آلاف (5000) متحوّلاً إلى التشيّع في محافظة ديرالزور حتى عام 2007، وهي نسبة كبيرة نسبياً عند مقارنتها بأعدادهم في محافظات أخرى، خاصة إذا عَلِمنا أن أهالي المحافظة يمتلكون عموماً موقفاً سلبيّاً تجاه التشيع المذهبي بسبب ارتباطه سياسياً بإيران، الدولة التي طالما اعتبروها عدواً منذ الحرب العراقية الإيرانية الطويلة، والتي أيّد الغالبية الساحقة من أبناء المنطقة فيها العراق، بل إنّ كثيراً منهم مازال حتى يومنا هذا يفاخر ب"شجاعة" الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ولعل السبب الرئيسي لذلك شعورهم بانتمائهم ثقافياً للعراق لتشابه العادات والتقاليد، مقارنة بسوريا التي يحس أبناء المنطقة بالتّهميش حتى من قبل سكّان محافظاتها غربي البلاد.
بسبب الموقف الإيراني الداعم للنظام تحت عناوين مثل "حماية المقامات المقدسة" و"لن تسبى زينب مرتين" وغيرها، ومشاركة قواتها بمجازر وتهجير في العديد من المناطق، سقطت الفوارق في المخيال الجمعي للأكثرية السُّنية السورية بين إيران والتشيع السياسي والتشيّع المذهبي، فأصبحت جميعها تعني أمراً واحداً مرتبطاً بمشروع تغيير ديمغرافيٍّ للتركيبة السكانية المذهبية في كل منطقة تسيطر عليها، لتتحول المواجهة إلى حرب وجود ضد "المشروع الإقليمي الشيعي" أكثر منها ثورة ذات مطالب سياسية واجتماعية.
وقد تحول الموقف السلبي من التشيّع المذهبي لدى أهالي ديرالزور إلى موقفِ عداءٍ مباشر، وهو ما سمح بتمدُّد إيديولوجيات دينية سُنّية متشددة تجاه الشيعة خصوصاً وكل مخالف عموماً، متجمّعةً في تنظيمات مقاتلة كان أبرزها تنظيم "داعش" الذي بسط سيطرته على شرقيّ سوريا لسنوات عدة.
احتلال ديرالزور
انتهت سيطرة تنظيم داعش على المنطقة الشرقية في سوريا بعد حملَتين عسكريَّتَين شرِسَتَين متزامنتين، كانت الأولى بقيادة قوات التحالف الدولي داعمةً "قوات سوريا الديمقراطية" على الأرض، والتي تمكنت من السيطرة على محافظة الرقّة إضافة إلى ريف محافظة ديرالزور شمالي نهر الفرات (منطقة الجزيرة)، بينما سيطرت الأخرى التي شنّتها القوات الروسية والإيرانية إضافة إلى قوات النظام على مدينة ديرالزور وريفها الممتد على طول الضفة الجنوبية لنهر الفرات حتى الحدود العراقية (منطقة الشامية).
خلّفت الحملَتَان دماراً واسعاً للمناطق المُسيطر عليها، إلا أنّ الفارق الأساسي بينهما كان في عمليات التهجير الممنهج في منطقة الشامية، حيث عمِدَت قوات النظام والميليشيات الإيرانية إلى إفراغ المدن والبلدات الأساسية –باستثناء مدينة ديرالزور– من أهلها، ثم نهب كل ما فيها واشتراط أمورٍ عدة لعودة أهالي تلك المناطق، أهمها الالتحاق بجيش النظام أو إحدى الميليشيات المرافقة له بالنسبة إلى من بلغ سنّ التجنيد، ما منع الكثير من سكان المنطقة من العودة، مفضّلين العيش كمهجَّرين في منطقة الجزيرة أو في ريفي حلب الشمالي والشرقي "منطقة عملية درع الفرات".
الوضع الراهن
يعيش الأهالي في المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات الأسد والميليشيات الإيرانية في ديرالزور اليوم أوضاعاً مأساوية، فجلّ العائدين يستنزفون مدّخراتهم في محاولة ترميم منازلهم وأماكن رزقهم، ومع ندرة فرص العمل وخسارة ريف منطقة الجزيرة كسوق اقتصادي، يجتذب التجنيد في الميليشيات الإيرانية التي توفّر رواتباً بمعدل 150 دولار للشخص، إضافة إلى إعفاء من الخدمة في جيش النظام، أعداداً كبيرة من الشباب في المنطقة، كما يجد الأهالي أنفسهم مجبرين على الوقوف في طوابير توزيع المواد الإغاثية للمؤسسات التبشيريّة الإيرانيّة للحصول على أساسيّات العيش.
كما أن الوضع الفوضويّ في المنطقة التي تشهد حرب نفوذ على طريقة العصابات بين الميليشيات التابعة للإيرانيين والتشكيلات العسكرية النظامية وشبه النظامية التي تدين بالولاء للروس، يدفع الأهالي للبحث عن حمايةٍ يجدونها في الانتساب إلى الحسينيّات والتحوّل المذهبي أحياناً، وأحياناً أخرى في إرسال أطفالهم إلى دروس المعاهد التبشيرية في المساجد والمقرّات التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية.
نفْسُ عِلّة البحث عن الحماية والتسهيلات تلك دفعت عدداً من شيوخ العشائر -سواء من المشيخة التقليدية كشيخ عشيرة البقارة نواف البشير أو من المتصدّرين للمشيخة بعد حالة التهجير وانقسام المناطق كعشرات المشايخ الجدد- إلى الارتماء في الحضن الإيراني رافعين شعارات "يا حسين.." و "يا زينت.." في مضافاتهم، ومبتدئين خطبهم التقليدية بالصلاة على آل البيت بعد النبي مع إهمال ذكر الصحابة على طريقة الشّيعة.
ذلك كله إضافة إلى انتشار الأذان على طريقة المذهب الشيعي في العشرات من مساجد المنطقة، والاحتفاء بكل المناسبات الدينية الشيعية الغريبة عنها وانتشار اللطميّات، مع تغيير عدد من أسماء المساجد في المنطقة التي تحمل أسماء "أبو بكر وعمر.." إلى أسماء أخرى، يعطي الانطباع لأي مراقب خارجي بتحوّل المحافظة إلى منطقة شيعية، أو ذات أكثرية شيعية على أقل تقدير.
لذلك ينقسم النّاشطون من أبناء المحافظة حول نجاح المساعي الإيرانية في تشييع المنطقة، فبعضهم ينظر إلى المنطقة كأي مراقب خارجي بعد أن انقطعت تواصلاته في المنطقة ليجد ما يعزّز تشاؤمه بأن المنطقة اليوم شيعية، بل يذهب أبعد من ذلك بوصفها ولاية إيرانية، فيما يتمسّك آخرون بتواصلاتهم مع من يعرفون في المنطقة كما يتمسكون بالأمل، ويعيشون معهم تفاصيل حياتهم اليومية المحمّلة بكثيرِ سخَطٍ ونفورٍ من مشاهد اللطميات وفَرض التشيع على الأهالي، فيتشكّلُ الرّأي لديهم أنّ ما يحدث غُمّةٌ لابد زائلة.. كما زالت داعش من قبلها ولم تنجح في تحويل الدّيريين إلى "مذهبها" رغم ما بذلته من جهود.
لكن ربما ما يتفق عليه الجّميع هو أنّ استمرار الاحتلال الإيراني للمنطقة، وإطلاق يدها في مساعيها الحالية دون دور روسيّ مناهض على الصعيد الاجتماعي، سيؤدي في النهاية إلى ديرالزور شيعيّة تتّخذ من إيران مرجعيتها الدينية وقيادتها الروحية، فالتاريخ حافل بإنجازات منتصرين يستخدمون الحديد والنار في تحويل قارّات بأكملها إلى مذاهب وأديان جديدة إن انعدم الخيار لدى الشعوب
متداولة لأطفال في أحد المزارات الشيعية