وجهتا نظر في الطائفية (1)
في البحث عن جذور التشبيح

الجولة في عوالم الشبيحة جولةٌ في اللامعقول والفصام والجهل، وهي جولةٌ في العناد أيضاً. فهؤلاء البشر المضطربون الذين فقدوا صوابهم أمام ما يحدث، وتحللوا من كل ضابطٍ أخلاقيٍ وشعورٍ إنسانيٍ ومنطق، لا يستطيعون اليوم مغادرة موقعهم الحالي إلى موقعٍ آخر أكثر تعقلاً.

والعجيب في الأمر أن عالمهم هذا قد تشكل دفعة واحدة منذ اليوم الأول للثورة، أو هكذا في الظاهر. وفي الباطن ربما يقال كلامٌ آخر عن أن مؤيّدي بشار الطائفيين كانوا من قبل على هذا الدرجة من التطرّف، كحصيلةٍ لتكوينٍ مجتمعيٍ مستمرٍ منذ عشرات السنين، يجد ذرائعه في وقائع وأحداثٍ تاريخيةٍ قريبةٍ وبعيدة، صحيحةٍ وغير صحيحة. تكوينٌ عدوانيٌ أخفي لسنين طويلةٍ تحت غطاء الوطنية والسياسة والتحليل الطبقي. وأسهمت في هذا الإخفاء أيضاً مفاهيم حديثة تفترض في كل الجماعات البشرية أنها اجتازت عتبات التطور اللازمة لتكون أكثر انتماءً إلى العالم الإنساني الرحب، وأكثر اقتراباً وقبولاً للجماعات البشرية الأخرى، وخاصة الشريكة منها في الأرض والوطن. ذلك الوطن الذي تشكّل في الحالة السورية على عجلٍ، دون السماح لمكوّناته الأولية، وخاصة الأقلويّة منها، بالتعبير عن نفسها وبث شكواها ومخاوفها في نقاشٍ وطنيٍ عامٍ ينتهي بعقد شراكةٍ وطنيةٍ حقيقي. وبهذه العجلة القسرية التي أجبرت العلويين، أو النصيريين وقتها، أن يكونوا جزءاً من الدولة السورية خلال تشكلها النهائي، في السنوات الأخيرة للانتداب والأولى للاستقلال، استسلم هؤلاء مرة أخرى لقدرهم، بعد أحلامٍ قصيرةٍ بدويلةٍ خاصة، وقبلوا أن يكونوا سوريين، دون حماسة.

وجاء حزب البعث، واهب فرص العمل للفلاحين الفقراء، وواهب الرتب العسكرية لمرضى الاضطهاد. فأقبلوا عليه كحزبٍ مخلّصٍ وضامنٍ وواعدٍ أيضاً، متجاهلين كل مشاعرهم الانفصالية العميقة أمام إغراء الصفقة التي تحلّ كل المشاكل مرة واحدة. فأغرم فقراؤهم وفلاحوهم بتطبيقات هذا الحزب، الاقتصادية منها والعامة، لتحدث موجات هجرةٍ من الريف الجبلي الفقير إلى المدينة بحثاً عن الحياة الأفضل، وليجتاحوا بذلك مؤسسات القطاع العام الناشئ حديثاً، وليجتاحوا بشكل أوضح المؤسستين الأمنية والعسكرية.

أما المثقفون بينهم فقد وجد الكثيرون منهم في هذا الحزب ضالّتهم النفسية والفكرية، فهو معادٍ بالأصل لما يعادون من قيم وثقافة الأغلبية السنية، وهو معادٍ أيضاً للطبقات العليا في هذا المجتمع، كما يعادونها، ولأسبابهم الخاصة. ومن جانب آخر فإن البعث حزبٌ إنشائيٌّ وبلاغيٌّ في مجمل أدبياته (لم يكن له منظّر إيديولوجي بالمعنى الحقيقي للكلمة. ولم توضع المنطلقات النظرية للبعث إلا في وقتٍ متأخرٍ على وصوله للسلطة، وعلى يد شخصٍ مشكوكٍ في بعثيته). وهو ما يناسب تماماً المستوى المعرفي الذي بلغه هؤلاء المثقفون الريفيون الجدد، الذين يعتبرون الضيعة أجمل من المدينة، والزجليات الطويلة التي تمجّد دالية العنب أرفع منزلة من القدود والموشحات.

لم ينعكس هذا التحسن النسبي في أحوال معيشة العلويين على الوعي العميق لقسمٍ كبيرٍ منهم. فلم يفهموا أن المكتسبات التي حصّلوها بطرق مشروعة، كالخدمات العامة والتعليم وفرص العمل، هي من حقوقهم كسوريين، بل فهموها كهباتٍ كريمةٍ من ابن عمهم السلطان حافظ الأسد. ولم يتعفّفوا عن مكتسباتٍ أخرى غير مشروعة، كالاختلاس والنهب والرشوة، وبأكثر صورها بدائية، بل نظر إليها وعيهم المباشر كأتاوةٍ أو ضريبةٍ يحقّ لهم، وهم رجال السلطان وحاشيته، أن يفرضوها على الآخرين. فليس في قاموس شتائمهم الجادّة أن يُدان الشخص لأنه مرتشٍ، بل يوصف عندها بأنه مستفيدٌ فقط.

وللأسف، عملت كل هذه المعطيات عملها في النفس العلوية العامة ـ مع وجود الاستثناءات بالطبع ـ لتزيد من المشاعر الأقلوية وتعزّز الإحساس بالخطر والوحدة والضعف، رغم مزاعم القوة والثقة بالنفس والانتماء. هذه المشاعر التي استثيرت مرّتين في العهد الأسدي، مرة في انتفاضة الإسلاميين في الثمانينيات، ومرّة أخرى في ثورة الشعب السوري الراهنة. وكانت جاهزة، في كلا المرّتين، لتدافع بشراسة، لا عن عائلة الأسد بل عن وجود الطائفة كلّه، ذلك الوجود الذي تورّط بالجريمة، ويدرك في مكانٍ ما من وعيه أنه تورّط. وعليه الآن أن يدافع حتى النهاية.