هجاء مقهى النازحين

هذه شبه نظريةٍ طبّقها كهول دير الزور، في برنامجٍ يوميٍّ ورثوه جيلاً وراء جيل، بدافعٍ أعلى من التسلية وأقرب إلى اللجوء نحو مكانٍ متسامحٍ يقبل المرء بأيّة صفةٍ كان. وليست مغامرةً أن اعتُبر المقهى، بصورته التقليدية، معقلاً للرجال ناقصي الطموح من ذوي الأنفس البريئة التي لا تطيق المطامع وانشغالاتها المعقدة. وفي عمر دير الزور غير الطويل كان المقهى جزءاً عضوياً من نسيجها العام. وكان ارتداء الجلباب الأبيض والمشي عصراً بالحذاء الصيفي المصنّع محلياً (الكلاش الديري)، مع ملاعبة أصابع اليد لسبحةٍ كبيرة الحبات، طقساً من طقوس المقهى قد تتخلله صلاة مغربٍ أو عشاءٍ في مسجدٍ قريب، مع انطلاقةٍ في بعض الأحيان نحو واجب عزاءٍ ثم عودة.
تغيّرت الأحوال، وتفرّق الزبائن في أراضي نزوحٍ شتى، وهُجرت كؤوس شايٍ وصحون سجائر وطاولات نرد، واختفت سحب الدخان وضجيج مجموعاتٍ مقيمةٍ تعترف بحقّ كلّ واحدةٍ منها في الصراخ. كان المقهى بيتاً ثانياً يستقبل فيه الزبون المقيم بعض الضيوف على طاولةٍ جانبية، ويبدي الساقي حينها تأدباً إضافياً أمام الغريب. لقد ذهب كلّ هذا وتوقف هاتف مقهى "ابن ستيتة"عن الرنين، ليطلب متوارياً عن البيت لزوجته الغاضبة. ولم تعد مقاهي عصمان بك والسرايا ونقابة المعلمين إلا أطلالاً في ديار حربٍ، يستعيد منها العشاق النازحون إلى الجورة والقصور ما شاؤوا من صورٍ أنيسةٍ في وحشة أمكنةٍ جديدةٍ تحوّلت، بين ليلةٍ وضحاها، إلى مقاهٍ، بعد أن أنشئت لأغراضٍ أخرى. لتبرز قوّة الحياة مجاورةً تماماً لهشاشتها، قوّةٌ تغذي الرغبة في الاستمرار وهشاشةٌ تثقلها في مربع الخضوع.

أرض النزوح في الجورة والقصور

ليس للعبة "البوراكو" نكهة الأيام السالفة، ولم يبقَ منها الا أكل الوقت جرياً وراء نهاياتها البعيدة. ولا يسخّر اللاعبون، هنا في مقهى "الجاز"، كامل خبراتهم السابقة أثناء اللعب. فلا شيء يوحي بالهناءة أو راحة البال، بل كلّ شيءٍ هنا منفرٌ وغير أصيل. بدءاً بالمكان نفسه، الذي أسّس ليكون مجمعاً تجارياً ثم حوّله المالك إلى مقهى، استجابةً لطلبٍ نتج عن قدوم آلاف الزبائن النازحين، ثم بالديكور المتكلف في جانبٍ من الصالة والمهمل في جوانب أخرى منها، وكذلك مقاعد البلاستيك غير المريحة والطاولات زائدة الارتفاع. ولكن الأنكى من كلّ هذا على قلوب الزبائن النازحين هو تخلخل سلم الأهمية في مجتمع المقهى، اذ تبوّأ عناصر ما يسمى بـ"بالدفاع الوطنيّ" المرتبة الأولى، وحُجزت لهم طاولات الصدارة، وصار "لصوص الدراجات النارية وموزّعو حبوب الهلوسة، وغيرهم من النكرات، رجالاً يطلبون النارجيلة بصوتٍ عالٍ ويدفعون الإكراميات لعامل النارة". ويشير سادة مقاهي الأمس ناحية أشخاصٍ بعينهم كانوا "لا يجرؤون على الاقتراب من عصمان بك، واليوم يتملقهم السقاة بعنايةٍ فائقة".
ينجح الزبائن النازحون في اختيار الأحاديث المناسبة من دون إبداء الولاء لعائلة الأسد، فأخبار السلع والأسعار والطرقات مواضيع آمنة. ويحبّون تذكر مقاهيهم الخاصة -فلكلّ رجلٍ مقهاه الخاصّ، لا يغيّره إلا لأسبابٍ وجيهة- فتسمع عبارات المقارنة مشحونةً بالحنين: "لم يكن الساقي يسألني ماذا أشرب في السرايا، ويجدّد الشاي كلما وجب دون أن أناديه"، و"كرسي الخشب والقش هو الأفضل لآلام الظهر"، و"قلت له: لا تغلق المقهى يا عبود، هي مصلحتك ومصلحة المرحوم أبوك". يبدي الزبون النازح ضيقاً أكبر بملاحقات الزوجة أكثر من ذي قبل. ويشتم الجوّال -يربطه همساً بعهد بشار- لأنه يخضعه لطلبها في كلّ لحظة، ثم يبرّر لها ما تفعله بالفراغ بعد ابتعادها هي الأخرى عن عالمها السابق. وقد يقفز سنواتٍ كثيرةً إلى الخلف ليترحّم على ساقٍ بعينه كان يتواطأ معه عند كلّ اتصالٍ من البيت على الهاتف الأرضيّ، فمرّةً يجيب: "لقد خرج قبل قليل.. ذهبوا إلى تعزيةٍ ثم يعودون"، أو "لا يا أم فلان لم يأتِ اليوم.. سأخبره عندما يأتي"، حين يكون الزوج مستغرقاً بمسلسل "البوراكو"، ويكتفي باستفسارٍ سريعٍ: "شكون؟"، فيردّ الساقي "لا شيء". أيامٌ جميلةٌ دمّرها بشار الأسد؛ هكذا يصنّف الزبائن، الذين حافظوا على مزاجهم الثوريّ، الذكريات. فيما يحرص من استسلم للأسد على تداول أخبار "داعش": "في مقاهي الميادين يُمنع التدخين والنارجيلة ولعب الورق".