نقطة.. انتهى التحقيق

رحل سليم عبد القادر زنجير عن عالمنا عام 2013، بعد أن تكحّلت عيناه برؤية الثورة السورية وشبابها، الذين أعادوا إلى مخيلته ذكريات أيامٍ كان فيها مثل هؤلاء الثوّار في الثمانينيات، بل كان كاتب بعض أشهر القصائد التي أنشدها "أبو الجود" حينها، قبل أن يضطرّ الشاعر إلى المنفى الطويل.

 يفتتح المؤلف كتابه بالقول: أنا أومن بالحرية الإنسانية والعمل السلميّ، وأنفر من التعصب نفوراً كبيراً، إلى حدّ أنني لم أمارس العنف ضدّ أي مخلوقٍ مهما كان وصفه. كنت أتصور أن من حقي كمواطن، ومن واجبي كمسلم، أن أقوم بالدعوة إلى الله، وإلى ما أظن أنه الخير لي ولوطني، ودون إذنٍ من أحد. غير أن هذا لم يمنع أن يعتقله رجال الأمن السوريّ، ليقضي عاماً في السجن (1979-1980). ورغم أن سطوة الأجهزة الأمنية ووحشية عناصرها لم تكن قد بلغت ذروتها في ذلك الوقت، إلا أن القصص التي ترد في هذا الكتاب لا يمكن وصفها بالالتزام بأبسط القواعد القانونية، أو باحترام الحياة والكرامة الإنسانية للمعتقلين. فالشيخ محمود، مؤذن جامع زكي باشا في حي الإسماعيلية بمدينة حلب، عجوزٌ على مشارف السبعين من عمره، نحيفٌ، أشيب، هادئٌ، متواضعٌ، على وجهه ملامح إيمانٍ فطريٍّ عميق. اعتقل لأن أحداً غافله وتسلل إلى غرفة الأذان ودعا لقراءة الفاتحة على روح بعض شهداء المواجهات مع السلطة. سأله المحقق: أخبرنا، من الذي دخل المسجد، ونادى في مكبر الصوت!؟ فأجاب المؤذن: يا سيدي، علمي علمك. فقال المحقق: أنت تعلم بالتأكيد وتريد إخفاء الأمر عنا. أنت متعاطفٌ ومتواطئٌ مع إخوان الشياطين. ولا جريمة بدون عقاب! أما أبو محمد فرجلٌ قد تجاوز الستين، يعمل بوابّاً في مدرسةٍ ثانوية، ضخمٌ كالفيل. اعتقل لأن مشتبهاً فيه اختبأ في البيت الذي يملكه ابنه. ولم تنفع إجابته بأنه على خلافٍ مع هذا الابن منذ 4 سنوات، وأن الابن مسافرٌ للعمل خارج البلاد، وأن الأب لا يحوز مفتاح البيت المقصود أصلاً. كان المطلوب أن يعترف باسم أي أحدٍ ويدخل آخرين في دائرة التهمة كي ينجو. وبعد يومين من التفكير في الزنزانة التي أعاده إليها السجانون، ها هو يختلي بالمؤلف ليقول: صهري زوج ابنتي ضابطٌ في المرور. عليه لعنة الله. أنا أمقته منذ زمن، وصدري مليءٌ بالغيظ نحوه والحقد عليه. فلماذا لا آتي به إلى هنا، يقومون له بالواجب، ويمسحون بكرامته الأرض، ويشفون منه غليلي؟ آه، ابن الكلب ذاك... وبالفعل، قام أبو محمد بهذه الوشاية المقذعة، التي لم تنفع محاولات ثنيه عنها. فأمر الرائد أليف وزّة باستدعاء الرجل، وهو يرتدي بدلة الشرطة. وفي لحظةٍ كان مطروحاً على الأرض، ورجلاه في الفلق، والعصا تهوي فوقهما. وبصق جلادٌ في وجه الضابط، ومرّغ آخر النجوم الثلاث على كتفه بحذائه. وكان سعيد صليعي شاباً في مقتبل العمر، بسيطاً، هادئاً، شعبياً بكل معنى الكلمة. دخل السجن بسبب استضافته لثلاثةٍ من الإخوان المسلمين عدّة أيامٍ باعتبارهم ضيوفاً، لا مطلوبين سياسيين... وبسبب ذلك كان يتوقّع أن الإفراج عنه قريبٌ، بعدما أمضى أشهراً ثلاثةً في الاعتقال، ولم يأبه لكلام من توقّعوا له الحكم بالسجن ثلاث سنوات. غير أن هؤلاء كانوا متفائلين أيضاً، فقد حكمت عليه المحكمة بالسجن لعشر سنين، رغم قناعة المحقّق ببراءته من أيّ عملٍ سياسيٍّ أو تنظيميّ!

كتاب2

أما عبد الله الأقرع فهو أحد قياديّي الجناح المعارض في الحزب الشيوعي.. وقد جاء به السجانون ورموه في مهجع السجناء الإسلاميين، مع بضعة أفراد من الشيوعيين، بصورةٍ مؤقتة. رموه كتلةً ضخمةً من لحمٍ وعظم، وقد نال من العذاب ما جعله يشرف على الموت. فلا حركة، ولا كلام، ولا توجع، ولا طعام ولا شراب. واعتنى به أكثر من طبيبٍ من السجناء، بوسائل محدودة، ولكن وضعه ظل ميئوساً منه. فلم يمكث سوى يومين؛ في الثاني منهما فوجئ المؤلف به عند صلاة الظهر، في الصفّ الأخير، مسنداً ظهره إلى الجدار، ووجهه صوب القبلة، وهو يحرّك إصبعه بالشهادة. كان يصلي مع الجماعة بعينيه.. وفي مساء ذلك اليوم، دخل الرجل في غيبوبةٍ تامة. فنقل إلى المشفى، حيث فارق الحياة.