نساء مُسنّات في الشمال السوري تحت وطأة الفقد والنزوح والإهمال

في أحد مخيمات إدلب - بعدسة الكاتبة

المسنَّات في إدلب من الفئات الأكثر ضعفاً وتأثراً بالحرب، تكبَّدن مشاعر فقد الأبناء أو الخوف عليهم، واجتمعت عليهن آلام الأمراض والعوز وقهر النزوح والتشريد، لكنهن لم تنلن من الحنان الذي تفيض به قلوبهن التي تحمل عذابات الأبناء وهمومهم، وسط ظروف صعبة لا يلتفت فيها أحد إليهن للمساعدة أو للمساندة بأوجاعهن، ثم يبقى الأمل بالعودة إلى منازلهن أكبر الدوافع لاستمرار الحياة.

بصوت تخنقه العبرات، وتسليم بقضاء الله وقدره، تتذكر أم حسن أولادها الذين فقدتهم في الحرب، واحداً تلو الآخر، ليكون مصيرها الوحدة مع قلب أم يدميه الفراق، وجسد يفتك به المرض. وبهذه الكلمات تلخص المرأة الستّينية قصة فقدها: "اعتقل نظام الأسد ولدي الأكبر، بينما فقدتُ الأوسط والأصغر في غارة حربية على سوق المدينة، حيث كانا يعملان داخل مطعم استهدفه القصف بشكل مباشر.. تأملت أن يخرج المعتقل ليواسي وحدتي، وبعد سنوات من الانتظار، علمت من خلال صورة رأيتها أنه فارق الحياة تحت التعذيب“.

أم حسن النازحة من معرة النعمان، أم لأربعة أبناء فقدت ثلاثة منهم في الحرب، تقبع في خيمة لا ترد عنها البرد والعواصف بمخيم عشوائي في بلدة كللي شمال إدلب، وتعتني بأحفادها الخمسة بعد وفاة آبائهم وتخلي أمهاتهم عنهم، وهؤلاء الصغار هم وحدهم من تشم فيهم رائحة أبنائها الذين فرقهم عنها الموت.. "بعد وفاتي ماذا سيكون مصيرهم!". ففي ظل عدم وجود المعيل، تنفق على نفسها وأحفادها من  المساعدات الإغاثية التي توَزعها المنظمات الإنسانية، مع حصولها على مبالغ مالية من ابنتها المقيمة في تركيا بين الحين والآخر.

أم حسن واحدة من كبار السن الذين يعايشون ألم الفقد والوحدة والأمراض في مخيمات النزوح، وقلة الدعم الإنساني بعد أن اقتلعوا من بيوتهم، وفرضت عليهم ظروف الحرب حياة التشريد مع آلامهم وأمراضهم وذكرياتهم، وما ينتابهم من قلق من احتمال الإصابة بوباء كورونا الذي يتربص بهم ويهدد حياتهم.

نقص الخدمات الصحية

ﻭﻭﺳﻂ ﺍﻟﻤﺼﺎﻋﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻮﺍﺟﻬﻬﺎ ﺍﻟﻤﺴﻨﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺻﻌﺪﺓ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺤﺘﺎﺟﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺭﻋﺎﻳﺔ صحية ﻣﻜﺜﻔﺔ قلما يحصلون عليها، إذ ازدادت معاناة المسنات النازحات في ظل جائحة كورونا، ووقوعهن ضمن الفئات الأكثر تأثراً بالوباء، في ظل صعوبة العزل الاجتماعي، وبعد المراكز الصحية، وانعدام الإجراءات الاحترازية.

وليدة العبسي (60 عاماً) نازحة من مدينة سراقب إلى مخيم في بلدة أطمة الحدودية مع تركيا، تعاني من أمراض السكري والضغط، وتخشى من الإصابة بفيروس كورونا الذي وصل إلى المخيم الذي تقطن فيه: "بخاف آخرتي تكون بالكورونا، فأنا مريضة سكر وضغط، وجسمي ما عاد يتحمل أمراض".

وتبين العبسي أنها تعجز في كثير من الأوقات عن شراء الأدوية بسبب الغلاء الذي لا يتناسب مع أوضاعهم المعيشية المتردية، والتي تسوء يوماً بعد يوم، وسط افتقار المخيم الذي تعيش فيه إلى أي نقطة طبية لمراقبة حالتها الصحية أو الحصول على الدواء، لذلك تضطر لقطع مسافة كبيرة للوصول إلى مركز الرعاية الصحية في البلدة.
الكثير مثل العبسي من كبار السن يعانون من الأمراض المزمنة وصعوبة الحصول على الأدوية جراء غلاء الأسعار وانقطاع بعض الأصناف الدوائية، تزامناً مع الفقر وعدم القدرة على العمل أو امتلاك مصدر دخل ثابت. بينما يطل شبح كورونا الذي وصلت حالات الإصابة به إلى 21022 في شمال غربي سوريا حتى تاريخ 4 من شهر شباط الحالي، حسب إحصائية وحدة تنسيق الدعم، منها 400 حالة وفاة بالعموم، و97 حالة ضمن المخيمات خلال شهر كانون الثاني فقط.

الآثار النفسية

تسببت الحرب والعيش في مناطق القصف والمعارك بأزمات نفسية للمسنات، ناجمة عن الخوف المتواصل، والبعد عن منازلهن التي تشكل حصيدة تعبهن في الحياة، وسط عجز الأبناء عن توفير السكن الجديد المناسب، فيما آثرت بعض المسنات البقاء في منازلهن رغم القصف وسوء الأوضاع الأمنية في المنطقة.

الخمسينية عائدة السويد نزحت مع أبنائها السبعة من مدينة كفرنبل إلى مخيم في بلدة كللي. ساءت حالتها النفسية بعد النزوح، ووقعت فريسة المرض بعد أن عايشت الفرق الشاسع بين حياته السابقة والحالية، صارت تفتقد أدق التفاصيل اليومية في بيتها وصحبة جاراتها: "طوال عمري لم أفارق بيتي، وبعد النزوح لا يغيب عن ذاكرتي أبداً. تركنا أراضينا وأرزاقنا، وأصبح حلمنا سلة غذائية لا تغني من جوع".

اللمة والألفة

كسرت الحرب قلوب الأمهات في إدلب، حيث فقدت الكثيرات أبناءهن ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﺑﻠﺪﻫﻢ ﻟﻠﻨﺠﺎﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺒﻬﺎﺕ، ﻓﻀﻼً ﻋﻦ ﺧﺮﻭﺝ ﺁﺧﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪ ﺗﻌﺮﺿﻬﻢ ﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻋﺘﻘﺎﻝ ﻣﺮﻳﺮﺓ، ﻭﻧﺠﺎﺗﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﺬﻳﺐ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺘﻘﻼﺕ، ولكن رغم كل الظروف تحاول الأمهات لم شمل العائلة، والحفاظ على دفء العلاقات، ويحاولن جمع من تبقى من أفراد الأسرة على قلب واحد.

أم وليد (48 عاماً) نزحت مع أسرتها من مدينة خان شيخون منذ سنتين إلى مخيم على أطراف مدينة إدلب، أم لخمسة أبناء، وتحاول أن تحافظ على تماسك الأسرة من خلال سكنها مع زوجها برفقة ثلاث أسر لأولادها، وعن ذلك تقول: "كنا نعيش في بيوت مستقلة ولكنها متقاربة، ونجتمع بشكل دائم في الجلسات والسهرات والولائم، وحاولت الحفاظ على عاداتنا وألفتنا حتى بعد النزوح، حيث نقيم في مخيم واحد، لتبقى اللمة كما كانت في السابق".

أحد أولادها سافر إلى ألمانيا وابنتها إلى تركيا، لكنها لم تقطع التواصل معهم عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي بشكل شبه يومي، لتكون قريبة منهم، وتسألهم عن أحوالهم، وتتحدث مع أولادهم، وتبحث في أدق تفاصيل حياتهم اليومية، حتى لا تشعر ببعدهم عنها