أثار تصريح نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، موسى أبو مرزوق، بأن «النقطة الأولى على جدول أعمال مؤتمر الحوار الفلسطيني هو منع تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية»، الجدل في أسس بناء تحالفات الفصائل الفلسطينية، وأصاب جمهور حماس من ثوار سوريا، فلسطينيين وسوريين، بإحباط عارم نتيجة تموضع حزب الله على رأس التنظيمات الداعمة للدولة الأسدية. وأضاف أبو مرزوق «إن مضى ذلك التصنيف فنحن جميعاََ إلى نفس المصير، يجب أن يكون الموقف بالإجماع لتصويب بوصلة العرب السياسية، فلسطين والقدس.»

يعود هذا التصريح بنا إلى سلسلة مواقف لقيادات فلسطينية اتصفت بالتخبط وافتقرت بمعظمها إلى أساس أخلاقي جذري تنطلق منه صياغة الموقف السياسي، وتكشف هذه التصريحات بوضوح غياب أدوات تحديث ونقد وتطوير في الأداء السياسي للفصائل الفلسطينية فيما يخص الواقع السياسي المتغير في المنطقة العربية، وهذا حق لقضية سوريا كما هو حق لقضية فلسطين، فالنضال الفلسطيني لا بد وأن يكون مسانداً للثورة السورية، فقضية فلسطين قبل كل شيء قضية الإنسان، و«الإنسان هو في نهاية الأمر قضية»، لكن الواقع يخبرنا أنه لم تقدّم أطروحات شجاعة تتسائل عن ماهية جوهر القضية الفلسطينية في فكر وأداء هذه الفصائل. 

النضال الفلسطيني في الثورة السورية

مع انطلاق الثورة السورية اصطف الأحرار الفلسطينيون والسوريون صفاََ واحداً من أجل الحرية والعدالة والكرامة. كان وسام الغول أول شهيد فلسطيني في الثورة السورية، إذ استشهد برصاص الدولة الأسدية  في يوم (23/3/2011) أثناء إسعافه جرحى في مخيم اللاجئين الفلسطيين في مدينة درعا. في حينها ادعت مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان، بأن «الفلسطينيين هم مشعلو (الفتنة)»

يقدر عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا مطلع عام 2011 بنصف مليون، غالبيتهم ولد في سوريا، ما يشكل نسبة 2.2% من عموم السكان. وكان حراكهم في كل مكان متناغماً مع حراك المنطقة المحيطة به، بل وجزءاََ منه، والأمثلة على هذا كثيرة، منها ثورة مخيم اليرموك في مدينة دمشق، حيث شارك فلسطينيون إلى جانب السوريين في مظاهرات المخيم أول انطلاقتها، وتحولت كثير من المخيمات إلى قواعد دعم وحماية للثوار من أذرع المخابرات الأسدية، فضلاً عن الدعم الإغاثي والطبي واللوجستي الصادر عن هذه المخيمات باتجاه جوارها، وفيها نفسها بحالات كثيرة.  

وكما السوريين انقسم الفلسطينيون في موقفهم العام تجاه الثورة، ومع انتقالها إلى طور المقاومة المسلحة بدأت الانشقاقات في صفوف جيش التحرير الفلسطيني، وانتمى كثير من الكوادر ذوي الخبرات العسكرية من الفلسطينيين إلى فصائل الثورة السورية المسلحة. بل وتشكلت فصائل فلسطينية خضعت للمسار ذاته الذي خضعت له الفصائل السورية، وعانت من المشاكل والانقسامات ذاتها. فانضم، على سبيل المثال، رئيس المكتب السياسي لحماس في سورية أبو أحمد البشير ومرافق نائبه أبو همام لأكناف بيت المقدس، الفصيل الفلسطيني المسلح في مخيم اليرموك، وعلى الطرف الآخر اصطفت الجبهة الشعبية (القيادة العامة) في التحالف العسكري والسياسي الموالي للنظام. ما يشي بتخبط الفصائل الفلسطينية في تعاملها مع المشهد السوري، رغم اتفاق غالبيتها على الالتزام بالحياد العلني، دون تقديم أسس واضحة ترتكز عليها في سلوكيها الآني والإستراتيجي، وترتكز عليها كذلك قواعد هذه الفصائل في حراكها وخياراتها. بينما كان المأمول أن تتحمل الفصائل الفلسطينية المسؤولية السياسية عن الشرخ الحاصل بين نضالها لتحصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية وبين نضال الشعب السوري. 

أخوة النضال والقهر

في العام 2001 قام محمود عباس أبو مازن، بصفته الرجل الثاني آنذاك بمنظمة التحرير الفلسطينية، بزيارة لسوريا حاملا قائمة أسماء تضم «أبرز» 600 معتقل فلسطيني لدى الأسد ، بينهم اللواء مصطفى ديب خليل المعروف بأبو طعان، وهو عضو المجلس الثوري لحركة فتح ورئيس جهاز الكفاح المسلح الفلسطيني السابق في لبنان، اعتُقل على أيدي الدولة الأسدية عام 1983. ويعبر الخبر والأرقام عن جزء مما عاناه الفلسطينيون في تاريخ تعاطيهم مع الأسد الأب ثم الابن.

وقد قدم الفلسطينيون رموزاََ وشهداء في الثورة السورية كالشهيد باسل خرطبيل، ونالهم من التنكيل الأسدي ما نال إخوتهم السوريين. وتشير إحصائيات مركز توثيق المعتقلين والمفقودين الفلسطينيين في سوريا إلى وجود 12494 معتقلاََ فلسطينياََ مفقوداََ في سوريا، اعتقل 11134 منهم بعد قيام الثورة السورية، ما يعني أن 2.2% من الفلسطينيين في سوريا هم مجهولو المصير في قبضة الدولة الأسدية، منهم 987 فلسطينياََ من فلسطينيي الداخل. وتشير الإحصائيات كذلك أن هناك 4 فلسطينيين على الأقل يستشهدون تحت التعذيب في الأقبية الأسدية من أصل كل 100 فلسطيني معتقل.

كما استخدمت الدولة الأسدية التجويع والقصف وغيرها من تكتيكات الجريمة لتركيع المخيمات، الأمر الذي لا يذكّر إلا بممارسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني في مخيماته ومدنه وقراه. ونال المخيمات الفلسطينية أيضا ما نال عموم المناطق السورية من البطش الأسدي، سواء المخيمات التي تم تحريرها من قبضة الأسد، أو التي بقيت تحت احتلاله، فتشير الأرقام إلى أن 75% من مخيم درعا تم تدميره، وأن مخيم اليرموك وقع تحت وطأة حصار خانق منذ تموز 2013، حيث حوصر 18 ألفا ََ ممن تبقى من سكان المخيم الذي كان بيتاََ لمئات الآلاف من السوريين والفلسطينيين. 

في الموقف السياسي تجاه القضية السورية

بالعودة إلى تصريحات أبو مرزوق فإن التحولات السياسية في المنطقة العربية، والضغوطات التي تولدها، تلقي بظلالها على مواقف الفصائل الفلسطينية. فحماس التي كانت قد أيدت الثورة السورية في شباط 2012، وأتى هذا التأييد في ظل تحسن وضع الإخوان المسلمين في الخارطة السياسية لعموم البلدان العربية، عادت لتتراجع عن موقفها، وكان ممثلها في طهران صرح في شهر أيار من عام 2014 أن سوريا في عهد بشار الأسد كانت ملجأ للمقاومين الفلسطينيين، ما يعني بداية تغير استراتيجي في موقف الحركة من الصراع السوري. وتبع هذا التصريح تصريح آخر من القيادي في حركة حماس محمود الزهار لجريدة (الأخبار) اعتبر فيه «أن الحركة أخطأت عندما خرجت من دمشق إلى الدوحة»، وأبدى الزهار مؤخراََ رغبته بإصلاح العلاقات مع سوريا. في العام ذاته، بعث محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية برسالة للأسد اعتبر فيها أن «انتخاب الرئيس الأسد يجسّد الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها، وسيسهم في خروجها من أزمتها الحالية في مواجهة الإرهاب»، وقد دافع قياديون في حركة فتح عن هذا التصريح بصفته بروتوكولياََ، وأن الشأن السوري شأن داخلي، وأن هذا التصريح جاء في سياق الحفاظ على أمن الفلسطينيين في سوريا.

وقبل ذلك بعام قالت ليلى خالد، عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن الجبهة «مع مطالب الشعوب في الديمقراطية والحرية» لكن «ما جرى في سوريا ليس كما جرى في أي بلد آخر»، وتحدثت ليلى عن خطأ النظام مع «بداية الحركة الشعبية»، وقالت إن «هناك مخطط لإنهاء سوريا، وليس النظام، مثلما عملوا في العراق.. لكن بأدوات محلية» و «عندما تتعرض سوريا لهذه الهجمة الغير مبررة، والتي تستهدف إنهاء سوريا كدور وكشعب وكوطن، لا، نحن مع سوريا، وضد كل هذا الإرهاب اللي جاي من برا، واللي جاي ينهيلنا مخيماتنا». إلى جانب هذه المواقف التزمت فصائل فلسطينية أخرى الصمت، وتحاشت الخوض في المشهد السوري.

تكشف هذه المواقف عن  افتقاد الفصائل الفلسطينية لرؤية صائبة، وتعبر عن عجز في فهم ظاهرة الربيع العربي، وتعبر عن اللامبالاة بالبعد الأخلاقي في الموقف من الانتفاضة السورية، حتى وإن كانت الذريعة في تلك المواقف حماية اللاجئين الفلسطيين في سوريا. كما أسست المقاربات الكسولة في تناول الشأن السوري لأوضاع بالغة السوء في موقع الفصائل الفلسطينية من النضال كقضية إنسانية، بعد انحياز لفهم زائف يجعل من بشار الأسد مسانداً للقضية الفلسطينية، وأسست ذات المقاربات لموقع غير أخلاقي تقف فيه هذه الفصائل اليوم. فالحديث عن استقرار سورية، دون اعتبار لحقوق السوريين ونضالهم، حديث فوقي ممانع للنقد وغير مسؤول، وإمعان وشراكة في قمع المقهورين، وتجريد البوصلة الفلسطينية من نضالها الإنساني خيانة لجوهر القضية الفلسطينية.