مشاهد من الحسكة

إنها المدينة الصغيرة في شمال شرق البلاد، ذات التنوع العرقيّ والدينيّ الكبير. تعيش، ومنذ اندلاع الثورة، حياةً أخرى لا تخلو من غرابةٍ تضاف إلى غرابةٍ أصليةٍ فيها، ولا تشبه حياة غيرها من مدن دير الزور والرقة وحلب، القريبة.

ولا بدّ أن يصاب أيّ قادمٍ من هذه المحافظات بالدهشة، وأن يتكيف عكساً من جديد؛ فبشار الأسد لم يطرد بعد من حياة سكان الحسكة، ومراكز سلطته وصوره وأعلامه وكتابات الحائط التي تمجده بـ"نحن أشبال الأسد" و"الأسد أو نحرق البلد" ما تزال هنا، وما تزال للنظام هيبةٌ في قلوب الناس، تلك القلوب التي تتمنى أن تفلت مدينتها من الحرب وتبقى بعيدةً عن الدمار، فهي - كما يقول معظم السكان بمختلف آرائهم السياسية - لا تفيد الجيش الحرّ في شيء، وهي أيضاً ملجأٌ لعشرات الآلاف من نازحي المدن الأخرى، وهي النافذة المتبقية لتسيير المعاملات الحكومية المتوقفة في تلك المدن.

 

الملثّمون

بعد أشهرٍ قليلةٍ من اندلاع الثورة أسّس محمد الفارس، وهو شيخٌ عشائريٌّ من قبيلة طيّ العربية، مجموعاتٍ مسلحةً كدليلٍ على شدّة ولائه لعائلة الأسد في محنتها. عرفت هذه المجموعات بالملثمين نظراً لاستخدام معظم عناصرها الأقنعة أثناء مساندتهم لقوات الأمن في حملات الدهم والاقتحامات والاعتقالات. وتكفل هؤلاء الشبيحة بقمع الثوار والناشطين في أوساط عرب الحسكة، مثلما تكفل مقاتلو pyd وحلفاؤهم بقمع مماثلٍ في أوساط الشعب الكرديّ. وخلافاً للانضباط الملاحظ في صفوف عناصر pyd الأكراد، يتسم نظراؤهم من الشبيحة الملثمين بالفوضى والهمجية والتوحش الزائد، مع ضروب الوقاحة والسوقية والجهل الظاهرة في سلوكهم اليومي في الشوارع والساحات، بسيارات (دبل كبين) وأصوات الأغاني البشارية الصادحة منها. فعلى صوت وفيق حبيب في "رائعته" (اجرح لي قلبي ولا تداوي، ورشّ عليي الكيماوي) يبدأ الملثمون يومهم، مزاودين في همجيتهم حتى على عناصر الأمن. وتسأل "عين المدينة"، التي استطاعت التقرّب من عدنان، وهو أحد الملثمين، مستغلةً معرفةً قديمةً به، عن سبب انتسابه إلى "الجيش الوطني" فيجيب الشاب العشرينيّ، الذي كان سائق دراجة نارية ينقل الناس بالأجرة، أنه سئم شرب الشاي والإفلاس والتسكع جائعاً في شارع فلسطين، فتطوّع ليملأ فراغه ويجني رزقه. وهو اليوم يقود الهايلوكس مسرعاً في الشارع، ولا يبالي أبداً بأكبر الرؤوس. تقطع كلام عدنان، الذي سجن مراتٍ في السابق عقاباً لترويجه حبوب الهلوسة، رنة الجوّال الحديث، فيردّ بصوتٍ خافتٍ متفاخراً بأن المتصل امرأة. وبعد أن ينهي اتصاله يسألنا عن التاريخ الدقيق لعيد الحب!

 

شارع فلسطين

السوق المؤلف من شارعٍ واحد، والذي أطلقت عليه السلطة البعثية اسم فلسطين، لم تتغير أحواله كثيراً، إلا بمزيدٍ من الازدحام ومزيدٍ من الصرعات المستحدثة في أسماء المتاجر وديكوراتها. وما يزال يحافظ على وظيفته كمحطة تسوقٍ وتسليةٍ وتزاحم، وكمهوى لأفئدة المراهقين للتحرش بالفتيات، وخاصة في المناسبات والأعياد، وهي كثيرةٌ في الحسكة التي تعيش هذه الأيام أجواء عيد الحب يوم 14 شباط، إذ طغى اللون الأحمر على سائر الالوان، وبرزت أنواع الهدايا بهذا اللون وبأشكالٍ وأحجامٍ مختلفة. والطريف الذي صادفته "عين المدينة" هو رؤية الملثم عدنان دون قناعه أو بارودته الروسية، متأنقاً ببدلةٍ رسمية، حاملاً دبّاً أحمر كبير الحجم. وفي تفرّعٍ جانبيٍّ من فلسطين، نشب شجارٌ بين شابين هدّد كلٌّ منهما الآخر بسحله على طول الشارع.

 

مؤسسات الأسد الحكومية

طالما اعتُبر الموظف الحكوميّ في مدينةٍ فقيرةٍ مثل الحسكة شخصاً محظوظاً، فإضافةً إلى الراتب الثابت في آخر كل شهر، يستطيع الموظف أن يحصّل يومياً مبالغ ماليةٍ كرشوةٍ وسمسرةٍ وسرقةٍ وغير ذلك من فنون النهب من القطاع العام، والتي تبالغ المخيلة الشعبية في مضاعفة مواردها. واليوم تجد هذه المخيلة برهاناً على صدق الشائعات التي أطلقتها، فمؤسسات الدولة أصبحت بالفعل مصدراً مالياً لا يستهان به من حيث حجم المعاملات وتنوّعها الشديد ومقدار الرشى المقدمة لعنصر الأمن أو السمسار أو الملثم وكل من يتدخل لتأجيل مطلوبٍ للخدمة العسكرية، أو لطالب قرضٍ زراعيّ، أو صاحب بناءٍ مخالفٍ يريد تسجيله بشكل رسميّ، وغير ذلك من شؤون الناس الراغبين باغتنام الفرص.