محاولة الإمساك بالخريف في جرمانا.. تلك المحاولة المؤلمة

Jeremy Mann

خريف جرمانا يضعها تحت المجهر، ويضع سكانها كذلك، الأقدار متعارضة مهما اتضحت الصورة، لكنها منسجمة في دفقها اليومي الرتيب: هاك سبباً لرحيلي، أو بقائي، أو ما أنا عليه.. لكن دعني في هذه البرهة اللزجة أجد ما أتمسّك به. كل اللقاءات والوداعات حتى ضمن العائلة الواحدة بلا معنى، في عالم لا وقت فيه للحياة، ولا للموت، إنه الواقع الحاضر بكل ما فيه من فرص للقفز على كل شيء حصراً، أما الماضي والمستقبل فمجرد رفاهية لم تعد متاحة.

جرمانا، تلك المدينة التي كانت في بداية الثورة معقلاً لعدد كبير من النشطاء الذين رحلوا عنها تباعاً، يخنقك فيها الزحام، ورائحة القمامة، بشر يسعون في كل الاتجاهات، ولا وجوه مألوفة، مدينة تزدحم بالغائبين والمتسولين من كل الأعمار، في هذا الخواء لا أحد يطيق النظر في عين الآخر، الكل يخفي خوفه وقلقه من القادم؛ إنه الخريف، آخر مواسم هجرة السوريين إلى أصقاع الأرض، يستعد عدد من الشباب للرحيل بعيداً، وبينما حسم بعض الشباب أمرهم بالرحيل هرباً من حالة الركود والكآبة، قرر البعض التمهل على خلفية إشاعة عن قانون جديد بخصوص الخدمة الإلزامية.

تحزم مريم ابنة مدينة السويداء حقيبة ابنها الأصغر رائد، وابتسامة فخر تعلو وجهها، وكأنها ترسله في يومه الأول إلى المدرسة. مريم أرملة على مشارف الخمسين، موظفة في البريد تنتظر التقاعد لتعيش وحدتها الكاملة، بعد مغادرة ابنها الأكبر البلاد قبل عامين، ومقتل زوجها الطبيب بسبب حرمانه من دوائه عند اعتقاله منذ ستة أعوام. غير واضح إن كانت تلك ابتسامة حقاً أم أنها تحبس أنفاسها تجنباً لشهقة بكاء فجائية!.

أنهى رائد ابن الشهيد دراسة الهندسة المعلوماتية، وعمل في محل موبايلات لعامين بعدها، منتظراً عقد عمل في الخليج وعده الأقرباء به، ولما طال الوعد، عزم الشاب أمره، "ما بقى فيني اتحمل يوم واحد، الحياة هون مضيعة وقت، ما في مجال الواحد يعمل شي إلا إذا كان حرامي". وهكذا جاءت الفيزا إلى أربيل، إحدى أهم وجهات الشباب السوري الهارب من البطالة والتضخم وبطش النظام، عدا عن مصيبة الخدمة الإلزامية والاحتياط. يقول رائد "ماصحلي فيزا غير ع أربيل، ولو ما صحتلي غير ع الواق واق رح سافر".

أمّا ديمة فستتخرج هذا العام بشهادة أدب فرنسي، وهي بانتظار تلك اللحظة كي تستطيع اللحاق برائد الذي قرر الهرب من ويلات الحرب إلى أربيل، مع وعد بالزواج عندما يسمح النصيب، "إذا ضل هون بحياتنا ما بنحسن نتزوج، هنيك ع القليلة ممكن يلاقي شغل، شو ما كان ع القليلة شوية أمل". وجدّتها التي تتجول بين غرف المنزل، بحثاً عن أثر للمغادرين من أبناء وأحفاد، أحياء وموتى تتعثر بأطيافهم، تجرجر قدميها يوماً بعد الآخر أملاً بالاحتفاظ ببعض حواسها لحين عودتهم، وتخشى الخرف فلا تعرفهم، وتخشى الزمن فلا يذكرونها، لا أحد يعبأ لوجع الجَدات فقد عشن ما يكفي.

وعلى بعد بضعة كيلومترات في دمشق، تضع سماح الحقيبة على ظهر ابنها، في اليوم الأول له في المدرسة، وترسله مودعةً وكأنها لن تراه ثانية، تنتظر سماح ذات الثلاثين عاماً لمّ شملها إلى زوجها، أستاذ اللغة الإنكليزية الذي هاجر إلى السويد قبل عام. سماح تعمل مع إحدى الجمعيات الخيرية والمنظمات التي استحدثت على خلفية الحرب، والمتهمة كغيرها بالفساد والسرقة: "اللي عم يوصلنا يادوب من الجمل أدنو، شي بقرف الواحد عيشتو"، ومع ذلك فإن وضع سماح المادي أفضل بكثير من غيرها، فهي ممن أثرى خلال الأزمة، والبعض يتهمها هي نفسها بالفساد والسرقة.

أحمد في الثانية عشرة من عمره، تقترب به طرق المدينة أو تبتعد عن ابن سماح، لكن أحمد لم يعد طفلاً منذ شطرت قذيفة أمه من خريفين فاتا، يخرج إلى عمله مسرعاً، مودعاً والده العاطل عن العمل "عايشين ع البركة". أبو أحمد كان من الناشطين خلال الثورة، مع الوقت تحول إلى "عفّيش"، من وجهة نظره أنه خسر الكثير، وهذا جزء من حقه يقوم باسترجاعه. أما أحمد الذي ترك المدرسة، فقد تحول إلى متسول مسؤول عن متسولين صغار، يقوم بجمع الغلة ويعطيها إلى المعلم، "لأن في ولاد بياخدو المصاري وبيصرفوهن، آخر اليوم المعلم بوزع علينا قسم من الغلة. أنا ما بشحد لأني كبير، شغلي دير بالي ع الصغار وراقبن".