ما الثورة؟

ليس هناك تحديدٌ علميٌّ دقيقٌ لمفهوم الثورة، إذ إن هذه الكلمة تطلق كتسميةٍ لعددٍ كبيرٍ من الظواهر المختلفة، وتتّسع لأي تحرّكٍ مسلّحٍ أو غير مسلّح، ضد نظامٍ ما، بهدف استبداله. ولا تبدو محاولات تأسيس نظريّةٍ في الثورة مفيدة، لأنها استنتاجاتٌ مشتقّةٌ غالباً من تجربةٍ أو تجارب ثوريّةٍ، مما يجعلها قابلةً دوماً للدحض، أو للتحديث بشكلٍ مستمرّ.

ولم يستخدم المؤرّخون العرب القدماء هذه الكلمة بالمعنى المعروف الآن، بل استعملوا بدلاً عنها كلماتٍ من نوع «الخروج»، الذي اختلفوا في شأنه عندما يكون خروجاً على السلطان المسلم الغاشم، بين التحريم والإيجاب، أو «الفتنة»، التي تشير عادةً إلى الصراع الأهلي الذي يؤدّي إلى تقويض وحدة الجماعة المسلمة.
وحين انتقل استخدام الكلمة اللاتينيّة revolution من كونها مصطلحاً فلكياً يعني حركة النجوم حول محورٍ ما وعودتها إلى النقطة التي انطلقت منها، إلى ميادين السياسة والاجتماع والتاريخ؛ اكتشف ثوّار العصور الحديثة أنّ الكلمة خرجت من دلالتها الأصليّة، من «إعادة» السلطة إلى أصحابها الطبيعيّين، و«استعادة» الحقوق التي سلبها الحكّام، وصارت تعني تأسيس نظامٍ جديدٍ كامل، لم يكون مقصوداً في البداية، أو لم يكن الثوّار واعين له حين بدأوا تحرّكهم. ويبدو هذا واضحاً في حالتَي الثورتين الفرنسيّة والأمريكيّة على سبيل المثال.
ومن هنا فإن «الثورة» التي لم تصل على التغيير الشامل في المجتمع وحكمه هي ثورةٌ منقوصةٌ أو تدرّجٌ إصلاحيٌّ لم يكتمل. وهذا ما يقدّمه نموذجا تونس ومصر في الربيع العربي، حين انحاز جزءٌ فاعلٌ (الجيش) من النظام إلى مطالب المحتجّين، وضحّى برأس الحكم وبعض ركائزه، وتلا ذلك إصلاحٌ سياسيٌّ للنظام القائم، مترافقاً مع ضغط الجماهير في الشارع وعبر بعض التشكيلات.
ولكن، متى تقوم الثورة؟ من الصعب تقديم إجابةٍ هندسيّة على هذا السؤال، ولكن تراكم النقمة الشعبيّة ضدّ النظام هي الأساس، بسبب التسلّط والإذلال والفساد والفقر وهشاشة الأمان الاجتماعي والإنساني... وغيرها، مما قد يؤدّي إلى نشوب ثورةٍ شعبيّةٍ لا تقوم على أساس برنامجٍ مسبقٍ يستند إلى رؤيةٍ أيديولوجيّةٍ معيّنة. ولعلّ هذا هو الحال الأفضل، إذ إن الثورات التي قادها حزبٌ ببرنامجٍ مفصّلٍ وشامل، غالباً ما استبدلت استبداداً باستبداد. ولكن غياباً تامّاً للبرنامج السياسيّ المتّفق عليه بشكلٍ واسع، أمرٌ ينبغي ألا يبعث على الاطمئنان أيضاً، لأنّه ربما يؤدّي إلى تصدّر قوىً مجتمعيّةٍ غير مسيّسةٍ للمشهد، وإلى انشقاقاتٍ وشروخٍ كبرى في المجتمع والدولة.