كيف استأنسنا بالسجان ليلة العيد

في الكثير من الأحيان أحتاج للتفكير إذا سُئلت عن تاريخ ميلادي وأنا لم أتجاوز خمسة وعشرين عاماً، وأنسى الكثير من مشاهد طفولتي، ولا أحفظ تاريخ زواجي جيداً، وعندما أهاتف أمي أكلمها برسمية لا تطيل مكالمتي معها سوى دقائق قليلة؛ لكن لا يمحى من ذاكرتي الخامس من رمضان عام 2011 الموافق للخامس من آب يوم اعتقالي، بكل تفاصيله.

كان الوقت بعد صلاة التراويح في مسجد السمح بن مالك قرب المشفى الوطني في مدينتي داريا، كنت -بكنزتي الرمادية المخططة وبنطالي الجينز- برفقة والدي وأخي الأصغر بعد أن انقضت الصلاة وهممنا بالخروج، صدمنا في الخراج بعناصر من الجيش قد أحاطوا بالمسجد، بعد أن قام أحد الأطفال برمي قصاصات من الورق كتب عليها "بدنا حرية"، وبعد تفتيش دقيق سمح لنا بالمرور باستثناء أخي الذي دفعوه للاصطفاف مع خمسة آخرين إلى الحائط. أمسكني والدي بقوة وهو يمنعني من الكلام، كنت أحاول أن أصرخ لكي أخلص أخي "يا بابا اصبر شوي، خليك جنبي بلا ما ياخدوك معو" قال لي والدي بهدوء.

عند مدخل باب المسجد المخصص للنساء كانت تقف أمي تنظر إلينا، لم تلاحظ في بادئ الأمر غياب أخي، وعندما اقتربنا منها سألت "وين أخوك" لم أجب، وإذا بالعساكر يقتادون الشبان الخمسة وأخي مروا بجانبنا، فبدأت أمي بالصراخ وأجهشت بالبكاء، راح الضابط الجبان يصيح من بعيد على أمي "اسكتي وإلا اخدك معو" ذلك الحيوان أشعل النار في عروقي، وكنت لم أبلغ الثامنة عشرة، فأفلتُّ يديّ والدي واقتربت نحوه ورحت أشتمه متحدياً أن يقترب من والدتي. 

بالسباب والضرب الوحشي صعدنا إلى الباص المخصص لنقلنا لفرع المخابرات الجوية، وقد قيدونا بسلاسل طويلة، جلس بجانبي رجل كبير بكلابية بيضاء عرفته في الزنزانة بعد أن خلعوا اللثام عن أعيننا، وكان والد صديقي. 

ثلاثون سجيناً ضمتنا زنزانة واحدة لا يتجاوز طولها ثلاثة أمتار ونصف وعرضها مترين، قضيت فيها أربعين يوماً، وبعض من أصدقائي قضى فيها حتفه ولم يخرج. كان طالب زيادة من داريا أحدهم، وهو في الثلاثين من عمره، وكان من المعتقلين الأوائل، عندما التقيت به كان جسمه نحيلاً ووجهه ناصع البياض، ففي المعتقل لم نكن نرى الشمس، نعرف الوقت من وجبة الطعام: في الصباح حبات من الزيتون غير المحلى وقليل من اللبن، وإذا انتصف النهار قصعة من الرز أو البرغل تقدم في رمضان عند المغرب، ووجبة العشاء بطاطا مسلوقة أو بيض وحبة بندورة. كان قد مضى على "طالب" سبعون يوماً في المعتقل، قال لي مرة "مشتاق كتير لأطفالي، بس لو اطلع شوفهن وارجع" وسالت على خديه دموع كان يحاول ألا تظهر.

الزنزانة كانت ضيقة وحارة جداً وغير مفروشة، وسائدنا فيها أحذيتنا، ولأني كنت فقدت حذائي عندما ركض العساكر خلفي ليلة اعتقالي، فكان ينام فراس (أحد رفقاء المعتقل) فردة حذاء واحدة ويعطيني الأخرى.

كنا نمضي أياماً بغير مبالاة، نثرثر عن كل شيء، يروي بعضنا للآخر قصة اعتقاله، ونخبر بعضنا بعضاً عن أحلامنا، وكانت عبارة عن فراش وثير وطعام كثير سنعده عند خروجنا بسلام. وأحياناً كانت الزنزانة تلتف حول أعناقنا وتحاول خنقنا فنسكت جميعاً ووجوهنا عابسة، ونتخذ قراراً جماعياً بأننا سنعصي أمر السجان، وسنصرخ ونعترض ونطالب بالخروج، ولسبب ما يغيب السجان عنا طوال النهار.

"السخرة" كانت النزهة التي نتطلع للحصول عليها، وهي أن نقوم بتوزيع الطعام على الزنازين والمهاجع الأخرى. كان الخروج لهذه المهمة مذل ومؤلم، فلا يحق لنا أن نرفع رؤوسنا أو نتكلم ولا حتى همساً، نملأ القصعات ونوزعها والسجان يدور حولنا ويضربنا بعصاه الثخينة كي نسرع في المهمة.

أصوات السلاسل لازلت أذكرها جيداً، وصوت قفل الباب وصراخ السجان "وجهك ع الحيط ولا" موسيقى مرعبة تتكرر في مسمعي كلما حلمت بكابوس، أو مرّت على مسامعي كلمة "معتقل". كانت الليالي تمرّ علينا كسلحفاة متعبة، نتهامس فيما بيننا ونخشى أن يسمع السجان صوتنا فينفلت علينا كثور هائج.

أصعب تلك الليالي كانت ليلة العيد، أول عيد أقضيه بعيداً عن بيتي وأسرتي. كنا في الزنزانة متفاوتي الأعمار، فكان بيننا الشيخ الكبير والشاب الصغير، لا أتذكر أن أحداً لم يبكِ في تلك الليلة، كنا نحاول أن نخفي دموعنا بأكفنا، ولكن صوتاً ما جعل بكاءنا مسموعاً؛ كان صوت السجان اللعين عندما غنّى بصوته الجبلي الرخيم "يا جبل البعيد خلفك حبايبنا.. بتموج متل العيد و همك متعبنا" فكان الكورال خلفه صوت بكائنا المخنوق، الذي بدأ يرتفع حتى ضجت الزنزانة به، ولسبب ما لم يقل لنا السجان "اقطاع الصوت" واستمر بالغناء، ولأول مرة أحببنا صوته، وكنا نتمنى ألا يتوقف.

ولكنه بعد دقائق قليلة -وكنا لا نزال نبكي- أفاق من سكرته، وانهال علينا بالضرب والشتائم، فعدت للبكاء هذه المرة متألماً من ضرب السياط.