كتاب القضاة... الحرب الأهلية الصامتة قبل الثورة

لطالما كانت العلاقة بين الشعوب، وبين القوى الدنيوية التي تتحكم بمصائرها، وحيواتها، وأرزاقها، وقوتها، وضعفها، متشابهة في مركزية فكرة الذنوب والآثام باعتبارها مصدراً للسخط الذي يتحول إلى عذاب مستحق.

لسنا هنا في معرض مناقشة صواب وحقيقة هذه الاعتقادات، بقدر ما هي محاولة للبحث في تفصيل صغير جداً يبدو مهماً كأحد نتائجها في المشرق. يتعلق الأمر تحديداً برقعة مكانية هي سوريا، وبحيز زماني ضيق هو ما بعد الثورة، و بمسعى محدّد هو مقارنة ربما تكون مستغربة بين آليات إنتاج سياسة عامة وأنساق تحكّمية، تستخلص قوتها من يقين مركّب يربط المعاناة بالذات الخاطئة، والخلاص بإرادة خارجية مستقلة عن معنى الفعل البشري من أجل المستقبل والمصير.

في «التناخ» اليهودي أو التوارة -العهد القديم- كما نعرفها، ثمّة سرد لمرحلة مضطربة في التاريخ، حسب رؤية المثيولوجيا العبرانية بالطبع، وصفت في «سفر القضاة»، ومع أنّ التفاصيل مختلفة في مسارها ودواعي حدوثها، إلاّ أنّها تتقاطع في جزئية التفسير السياسي لها، السفر هو السابع في ترتيبه، ويروي قصّة ما بعد انهيار الحكم المركزي الأوّل لبني اسرائيل، وتحّكم مجموعات من الاشخاص الأقوياء الذين أطلق عليهم لقب «القضاة» بالمجتمع المشتت والمهزوم، والقضاة هنا لقب اعتباطي بمعنى عام؛ إذ أنّهم ليسوا قضاة بالمفهوم المستقر لعمل القضاء، بقدر ما هم وفق معايير زمننا أمراء مناطق ومدن شبه مستقلة، وهم لا يُذكرون بهذا اللقب مطلقاً في السفر، غير أنّه عرف شفاهي موروث. في التحولات السياسية لهذا العصر -السفر لا يحتوي شيئاً عن العقائد بقدر ما هو قصص تاريخية منتخبة لغرض محدّد- تقع سردية المظلومية على الذات ومنها، بشر تحولوا عن عقيدتهم؛ فسلّط عليهم حكم ظالم غاشم (فحمي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين، فنهبوهم وباعوهم بأيدي أعدائهم) ودخلوا في حروب أهلية حول طاعة القضاة، حتى دانت الأمور لملك واحد هو شاؤول.

تبدو الخطوط العريضة للمقارنة واضحة هنا، لكنّ المنحى ليس خطياً بالمفهوم البسيط للمقارنة والاستقراء، والتعقيد هنا يعود إلى أنّ أمراء الحرب السوريين -وغير السوريين-  المتحكمين بقسم من سوريا، لا ينتمون إلى حوض ثقافي واحد كحال قضاة بني إسرائيل، لكنّ السيرة التنفيذية لحكمهم تبدو متشابهة، وهي في بعض وجوهها تستمد ما تسوّغ به «شرعيتها» من سردية إيقاع الظلم على الذات، وتبني سياقاً ملتبساً يصوّر فيه أمير الحرب نفسه كمخلص من ظلم «الناهبين»، بينما يقرأ بعض مريدي المظلومية وجودهم باعتباره تكفيراً -بوجهي الكلمة- عن إثم وقع إبّان الرضوخ للظلم.

ثمة مفارقة أساسية في ظهور أمراء الحرب السورية، فهم متمردون افتراضاً على طغيان الأسد؛ لكنّهم يستخدمون إرث «أمراء النظام» قبل الثورة والحرب والفوضى، فـ«الشرعي» يستمد سلطته من سطوة فرض قانون ديني لا يفقه من أمره شيئاً في الغالب، تماماً كما كان رئيس فرع المخابرات قبل الثورة «أميراً لحرب خفية» يستمد سلطته من سطوة قانون أيديولوجي لا يفقه من أمره شيئاً، وبينما يسوق الشرعيون بعد الثورة سردية الخطيئة كمبرر لحكم الأسد، فإنّ أمراء الأسد قبل الثورة كانوا يضعون الخضوع له ثمناً لخطيئة الهزيمة التي لا يحقّ للمجتمع أن يناقش دورهم فيها.

في السفر التوارتي، يبدو القضاة كثوّار قاوموا محتلاً ثم حلّوا محلّه، وهم لا يكترثون لإزالة الأسباب التي جاءت به، ولا لتغيير نتائج وجوده؛ بل يستثمرون في فكرته ويتجانسون -ياللمفارقة-  مع آليات حكمه، لأنّهم حسب تفسير حديث لا يملكون آليات حكمهم الخاصة. ولو بحث أحد في قائمة أمراء الحرب السورية في ضفة الثورة -والأسماء كثيرة ومعروفة- سيجد صورة الأسد في أكثر حالاتها تشوها، كما أنّه سيجد وصفة إسرئيلية حرفية في الاستيطان والتهجير تطبّق في ضفة النظام مع تنكّر كامل، وادّعاء مناقض للحقيقة بالتمايز الأخلاقي، للصورة القانونية في الدولة العبرية تجاه مواطنيها.

لا يجب أن يدفع السرد السابق إلى الاستنتاج أنّ ثمة صيغة توراتية لفهم الثورات فهذا بعيد جداً عن الحقيقة، لكنّ المشابهة قد تشير إلى أنّ الآليات السياسية للحروب الأهلية في المنطقة لم تتغير كثيراً، وحتى بوجود ما تدعي أنّها «دولة» في سوريا فقد كان الواقع حرباً أهلية صامتة بين زعماء أقاليم يتصرفون كمحتلين، وبين شعوب تتوالى عليها سرديات المظلومية والمؤامرات الأبدية، باعتبارها مركزاً موهوماً لشهوة النهب العالمية، وهي قصّة صدّقها رهط كبير من هذه الشعوب إلى حد أنّه حين سقط أمراء المخابرات وضباط «فرق التفييش والتهريب» ولاحقاً التعفيش، لم يجد بعض «قضاة» الثورة سبيلاً أسهل من استنساخ تجربتهم السوداء.