في نقد الثورة... واستثمـار نـقـدها

بات من المعــــروف أن ناشــــطي الثورة وممثليها، من إعلاميين وسياسيين وعسكريين، دأبوا لوقتٍ طويلٍ على تجاهل السلبيات بين صفوف الثوّار، والتستّر عليها. وقد كان ذلك لأن هذه الممارسات كانت هامشيةً بالفعل، بالقياس إلى التيار العام الطاغي على الثورة في أشهرها وسنتها الأولى، وبهدف حشد التأييد الغربيّ والعالميّ ودفعه نحو دورٍ مؤثرٍ في مجرى الأحداث، وأخيراً بهدف محاربة دعاية النظام، التي لم تترك تهمةً لم تلصقها بالثائرين، من التكفيرية والتطرّف إلى اللواط وتعاطي المخدّرات، مروراً بالعمالة لقوىً خارجيةٍ والارتزاق منها.
ولكن هذه الهالة من الاحترام والتنزيه، القائمة على منع الانتقاد، والتغطية على المعلومات والمؤشرات السلبية، أخذت بالتحلّل شيئاً فشيئاً، وببطءٍ ومقاومة، حتى انهارت مؤخراً في عاصفةٍ عاتيةٍ أو سيلٍ صاخبٍ جرف سداً قلقاً من الحجارة وأحاله رملاً تذروه الرياح.
بدأ الأمر بالممثلين العامّين للثورة، من الناطقين وأصحاب التصريحات على القنوات الفضائية، فأعضاء في المجلس الوطنيّ ثم الائتلاف، وأخيراً في الحكومة المؤقتة. وقد حاز هؤلاء توكيلاً دلت عليه شواهد كثيرة، في عجالةٍ من القتل الذي روّع الثائرين، وعلى جهالةٍ وسمت كلّ هؤلاء الممثلين تقريباً، وذلك لهدفين ملحّين هما الإسراع في وقف الكابوس الدمويّ الذي يرتكبه النظام، واستجلاب الدعم. ولا شك أن الفشل في تحقيق الهدف الأول، واقتصار الإنجاز في الثاني على أقلّ القليل، مع طول المدّة، وترقّب السوريين لنتائج عمل ممثليهم المفترضين، ومراقبة تصريحاتهم الركيكة والمتناقضة على الشاشات؛ هي أسباب إسقاطهم رمزياً بأسرع مما صعدوا، وشتمهم في كلّ مناسبةٍ بأكثر ما نالوا من تقديرٍ في البداية. وتكفي نظرةٌ واحدةٌ إلى التعليقات على أيّ منشورٍ لصفحة الحكومة المؤقتة على الفايسبوك دليلاً، والأدلة كثيرة جداً.
واتسع الأمر، وأيضاً بسبب طول مدّة الألم والتعثُّر الواضح للفاعلين. فطال الانتقاد الكتّابَ والمحللين، فقادة النشاط السلميّ المتفائلين دون سندٍ واقعيّ، وقادة الكتائب والألوية الذين لم يتقنوا معادلة استجلاب الدعم اللازم وتنظيم الصفوف بهدف الخلاص من النظام أو التحرير المناطقيّ الآمن من شتى أنواع قوّاته المدمّرة. وبين هؤلاء وأولئك احترق إعلاميون، ورؤساء مجالس محلية، وعاملون في الإغاثة، ومنظّماتٌ... إلخ.
وإذا كــان كلّ ذلك مفـهوماً، وبحاجةٍ إلى الكثير من النقاش حول الأساليب والضوابط؛ فإنه، في وجهٍ من وجوهه أيضاً، صحّيٌّ ومبشّر، بعد عقودٍ من التدريب على عبادة الفرد وتقديس عائلته ومقرّبيه. ولكن...

***

من الملاحظ ترحيبُ أعضاء وأنصار تنظيم «الدولة»، بالمقالات أو الآراء المنتقدة لهياكل وسلوكات الثوّار. ومع غياب الأرضية المشتركة بين «الدولاويين» وبين الثورة، يتبيّن أن هذه الآراء لا تعني بالنسبة إليهم سوى دليلاً آخر على فشل الثورة وتخبّطها وسوء إدارتها لشؤونها وللمناطق الخاضعة لسيطرتها، مما ينتج عنه حكماً –عندهم- ضرورة التخلي عنها وتسليم الأنفس والأسلحة والموارد والمدن «للدولة» الصارمة المركزية، التي تحارب اللصوص وتفرض الأمان!
وإذا بنا، عندما نكتب وننتقد، وكأننا نقدّم مادةً دسمةً لقناة الدنيا، أو لسواها من وسائل إعلام النظام، لتقول: وها هم يعترفون في إعلامهم بفشلهم في هذه المسألة، وبتخبّطهم في أخرى... إلخ!
وهذا درسٌ إضافيٌّ نتعلمه من الصراع مع داعش. وهو أن الأنظمة الطغيانية تتشابه إلى حدٍّ بعيدٍ وغريبٍ في البنية العميقة، رغم اختلافها الشديد في المنطلقات والأهداف وفي أشياء أخرى كثيرة. وإذا بجماعة «عرين الأسد» هم نفسهم جماعة «آساد الدولة»، وإذا بالمبالغة البائسة التي استخدمها أنصار بشار في وصفه بقولهم «نظرتك ترعبهم»، تنقلب بسهولةٍ إلى الوصف الذي أطلقه أتباع البغدادي «مرهب الأعادي». ولا نقصد هنا الإشارة إلى فكرة عمالة التنظيم للنظام، وهي التي أعوزتها الأدلة الجادّة وأسقطتها الأحداث، ولكننا نرمي بالضبط إلى أن بنية الطغيان واحدةٌ، في عمومها كما في جزءٍ وافرٍ من تفاصيلها.
ينبغـي علينا التنــبه إلى ذلك، ولكنه يجـب أن لا يدفعنـا إلى الـتوقف عن انتقاد الثورة ورجـالاتها، سياسيـين وعسـكريين. فهي ثورة حريــة القـــول، ومحاسبة المسؤول، والمساواة أمام القوانين. ولن يدفعنا الاستغلال الدنيء لهذه الانتقادات إلى كبتها وتزيين الصورة؛ فهذه الثورة ثورتنا، وسنمـضي بها حتى تستوي على الجوديّ. ولكننا لن نساوي أبداً، على حد تعبير بشير هلال، بين «شجرة أخطاء الثورة، وغابة بربرية النظام» وداعش.