في حلب:
يحتفل بعض الأهالي بموت آخرين!

أحد الجوانب المؤلمة في ما تعرّضت له حلب، وما زالت تئنّ تحت ثقله، جانبٌ غير عسكريّ. فبعد الحمم النارية التي لم تنلها أيّ مدينة، في تلك المساحة الممتدة من صلاح الدين في جنوبها الغربيّ حتى مساكن هنانو في شمالها الشرقيّ، والتي كست كلّ مترٍ مربعٍ منها بقذيفةٍ أو ببرميلٍ وبآلاف الرصاصات؛ يأتي القتل المعنويّ الذي مارسه ويمارسه جزءٌ من سكان المدينة نفسها تجاه شطرها الآخر.

فقد شاءت الظروف والصراعات والولاءات وغيرها من العوامل أن تقسم حلب إلى غربٍ وشرق. يسيطر على القسم الغربيّ ما تبقى من قوات النظام من جيشٍ وشبّيحة، وتعيث فيه فساداً الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان تحت القيادة والرعاية الإيرانية، التي يبدو أن لها السيطرة الأولى حتى على عناصر النظام وشبّيحته، وما تختزنه أو تدّعي اختزانه من مظلوميةٍ زائفةٍ تبرّر نزعة الانتقام اللامحدودة تجاه المدينة وسكانها. الجزء الغربيّ هو القسم المنظّم من حلب، والأكثر غنى وتخديماً، فضلاً عن وجود أغلب الدوائر الحكومية فيه، والأهم من ذلك وجود الفروع المخابراتية والمراكز العسكرية الرئيسية، ويقطنه السنّة والمسيحيون والأرمن.

أما القسم الشرقيّ من المدينة، الذي تمكن الجيش الحرّ من السيطرة عليه في منتصف عام 2012، فكان قبل ذلك مكاناً للتظاهرات السلمية. ويتكوّن، في غالبيته، من أحياءٍ عشوائيةٍ تسكنها غالبيةٌ من أصولٍ ريفية، من العرب والتركمان والأكراد، كلهم من المسلمين السنّة، وربما يفسّر هذا جزئياً التوحش الإيرانيّ في معاملة البشر هناك.

طيلة السنوات الأربع الماضية لم يمرّ يومٌ، تقريباً، لم يتعرّض فيه الجزء الشرقيّ لعمليات قصفٍ وقتل، ناهيك عن الحصار والتجويع مؤخراً، إلى أن تمكنوا في الشهر الماضي من إخضاعه بعد تدميره شبه الكامل. فنتجت عن الاجتياح عمليات نزوحٍ جماعيٍّ إلى الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام أو قوات البيدا الكردية، أو الخروج من المدينة. فسادت، بعد كلّ ذلك القتل، نماذج جديدةٌ من الرعب تتمثل في الاعتقال والاختفاء والمعاملة المهينة التي تستهدف الآدمية قبل كل شيء. أما الأكثر بشاعةً فهو كيفية تلقي الأهالي أو الساكنين في الجزء الغربيّ لهؤلاء المشرّدين والهاربين من الموت ليعانوا مظاهر تنكيلٍ جديدةً من المخابرات والفصائل الشيعيّة، ومن فرح بعض الأهالي بتشريدهم وموتهم. فالمظاهر التي اجتاحت بعض شوارع المدينة، من المسيرات بالسيارات والهتافات للأسد ولبوتين ولنصر الله، أي للقتلة تحديداً، لتعبّر عن شكرهم على «تحرير» مدينتهم من «الإرهابيين»؛ كانت الخنجر الأكثر إيلاماً في صدور هؤلاء الهاربين من موتٍ إلى موت. الهتافات والزغاريد في طرف، والاستغاثات والموت وأنين الجرحى في الطرف الآخر!

يكشف هذا عن إحدى الركائز التي اعتمدها النظام في دعم حكمه المزمن، وهي زرع الكراهية بين الناس، بين كل فئات المجتمع، ومحاولة تسخيرها في الوقت المناسب، لمصلحته أولاً، ولاستكمال عملية التفتيت الاجتماعيّ، الذي كان همه الأول، ثانياً.

فغير اعتماده على القوة العسكرية وتوغل أجهزة مخابراته في كثيرٍ من التفاصيل الصغيرة لحياة الناس، اعتمد النظام وسائل أخرى في عملية التفتيت، من تقديم امتيازاتٍ لبعض رموز العشائر عبر مناصب لا تقل تفاهةً عن أصحابها وحرمان رموزٍ أخرى منها، وربط فئة محدثي النعمة باستمرارية العطاء بمقدار الارتباط والولاء، ناهيك عن الصراع الحضريّ الريفيّ التاريخيّ في بلداننا، الذي عمل النظام على تقويته بدل محاولة التخفيف من آثاره. حتى تمكن، عبر تلك الآليات، من زرع وتنمية حالةٍ من الكراهية في نفوس غالبية سكان المناطق التي يسيطر عليها، وتحويل تلك العواطف إلى قوّةٍ ماديةٍ تجسّدت في سلوكٍ غير أخلاقيٍّ تجاه أخوةٍ لهم تعرّضوا لكل أشكال القتل والرعب والدمار.

ربما تتشكل في زمن الحروب هوياتٌ معينة، غالباً ما تكون «قاتلة»، تستند إلى عصبياتٍ دينيةٍ أو قبليةٍ أو عقائدية. أما في حلب فغالبية السكان في الطرفين من عرقٍ واحدٍ هو العربيّ، ومن دينٍ واحدٍ هو الإسلام، وحتى من مذهبٍ واحدٍ هو السنّي. وهنا نصبح أمام عصبويةٍ جديدةٍ قائمةٍ على الكراهية مقابل نوعٍ من الاستقرار الموهوم، وخوفاً من حالةٍ افتراضيةٍ قد تنال أصحابه. ربما هي حالةٌ جديدة، ولكنها فجائعيةٌ على كلّ حال.

حين تغنّى بشار الأسد بأن النسيج الاجتماعيّ السوريّ قد تحسّن كان يقصد النسيج القائم على القمع والخوف والكراهية، عندما يرقص جزءٌ من أبناء المدينة على أجساد آخرين منها مقابل فتاتٍ من الخبز.