في جذور الطائفيّة السياسيّة والعسكرية

الصراع على السلطة في سورية: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961 - 1995
الدكتور نيقولاوس فان دام. القاهرة: مكتبة مدبولي.

أصبح لدى العلويين الآن كمٌ هائلٌ من أعداد [الضحايا] والكثير من الضغائن الدموية، مما يجعل من المستبعد أن يغامروا بالسماح بخروج السلطة من بين صفوفهم، خشية وقوع تصفيةٍ مروّعة للحسابات.
ديفيد روبرتس ـ 1987

هذا الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه قدمت لجامعة أمستردام في آذار 1977، ونشرت منه طبعاتٌ عدّة قبل أن يترجم بإشراف المؤلف، الذي قام بمراجعة الطبعة العربيّة وتحديثها والتوسع فيها لتشمل أهم التطورات ذات الصلة التي وقعت في سوريا حتى عام 1995. وقد اعتمد البحث على ثلاثة مصادر رئيسية، هي: وثائق حزب البعث الداخلية، وسِيَر الحياة والمذكرات، والصحافة والإذاعات العربية، ثم تدعيم المعلومات بمقابلاتٍ شخصية.
ويرصد المؤلف تنامي حجم الضباط المتحدّرين من الأقليات في الجيش السوري، منذ سياسة التجنيد الفرنسية التي اتّبعت تقليداً رسمته القوى الاستعمارية في العديد من الدول، بتجنيد ضباطٍ من بين مجموعات الأقليات النائية عن العاصمة، وخاصة المجموعات ذات التطلعات المحدودة نحو الاستقلال.
ومع تأسيس حزب البعث شكّلت حقيقةُ أن الكثير من البعثيين كانوا من الأقليات وأبناء الريف عائقاً اجتماعياً أمام انضمام أبناء المدن السنيين إلى هذا الحزب. الذي وجد، عندما استولت مجموعة من ضباطه على الحكم في 8 آذار 1963، أن عدد أعضائه يقل كثيراً عن ما يكفي لإدارة الدولة والتحكّم في مفاصلها. فقام القادة البعثيون العسكريون باستدعاء العديد من الضباط وصف الضباط الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية أو إقليمية، لتعضيد مراكزهم الجديدة. وكان معظم العسكريين الذين تم استدعاؤهم على عجلٍ ينتمون إلى الأقليات، طالما أن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري كانوا من أبناء الأقليات. كما قرر المكتب التنظيمي زيادة أعضاء الحزب، فأصدر قراراً بترقية "الأنصار" فوراً إلى "أعضاء عاملين"،

مع الحق في الاشتراك في الانتخابات الحزبية وترشيح أشخاص آخرين للعضوية. فاستفاد بعض قادة الحزب من إجراءات القبول المتساهلة هذه، وضمّوا أقرباء وأصدقاء ومعارف كأعضاء عاملين، دون الحاجة لتوافر معايير مشدّدة. فلم يكن عسيراً على هؤلاء القادة وأنصارهم أن يمكنوا من تحويل تكوين بعض فروع الحزب جذرياً لمصلحتهم الشخصية. فقد ذكر التقرير التنظيمي المقدّم إلى المؤتمر القطري السوري الثاني لحزب البعث، المنعقد في 1965، أن عدد أعضاء فرع حزب اللاذقية على وجه الخصوص فاق بكثير عدد الفروع الأخرى. وقد أثار هذا الأمر الشكوك حول ما إذا كان مسؤولو الحزب هناك قد طبقوا الأنظمة المتعلقة بقبول الأعضاء.
أما حافظ الأسد، الذي شغل منصب قائد القوات الجوية منذ عام 1964، ثم وزيراً للدفاع، فضلاً عن كونه عضواً في اللجنة العسكرية البعثية التي كانت مسؤولة لعدة سنوات عن نشاطات التنظيم العسكري للحزب؛ فقد استطاع أن يعيّن الكثير من مؤيّديه العسكريين في مراكز استراتيجية هامة. وحين دخل في منافسةٍ مع صلاح جديد، الرجل العلوي القوي وقتها؛ أخذ يضع ثقته المتزايدة في أشخاص مقربين إليه، كأفراد عائلته أو عشيرته أو قريته وما يجاورها، وخاصة شقيقه رفعت الذي تولى قيادة سرايا الدفاع.
ورغم ذلك فقد سعى الكثير من البعثيين العلويين، وغيرهم من أبناء الأقليات، إلى التخلص من وضعهم الفئوي، كارهين تذكيرهم المستمرّ بخلفياتهم الطائفية، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك على نطاقٍ واسع. ورغم ما كان يفترض من أن الشعارات القومية والعلمانية السائدة ستحلّ محل الهويات الطائفية، إلا أنه من الواضح أن الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية قد لعبت دوراً هاماً في تاريخ سوريا السياسي في الخمسين عاماً الماضية، ولكن الآراء تختلف حول مداه، فبينما يميل العديد من الكتّاب والمؤلفين الغربيين وغير السوريين إلى تعليق أهميةٍ كبيرة على هذا الدور، فإن العديد من الكتّاب والسياسيين القوميين الاشتراكيين السوريين والعرب، يرفضون تماماً وجهة النظر هذه، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بنظام يؤيّدونه. إلا أن نفس أولئك الكتّاب والسياسيين يعلقون أهمية كبيرة على الطائفية والإقليمية والعشائرية عندما تتعلق القضية المطروحة بنشاطات أنظمةٍ معادية، أو بمعارضين سياسيين لنظام حكمهم.