عن تميم صائب والدير التي قتلت مبدعيها

غصّة أخرى في حلوقنا تصنعها دمعات حبستها العيون، فضَلَّت الطريق لتخنق أنفاسنا، نحن أبناء الاغتراب والتهجير والحزن المزمن.

تميم، الكاتب الحسّاس والأديب المتواضع والشاعر، الذي فضّل العيش مغموراً، قتله القهر قبل أي شيء آخر؛ قهر تهجيره وانسلاخه عن الفرات الذي عشق، وعن المدينة التي التصق فيها كما الروح والجسد، ديرالزور، مدينة الجراح والقسوة والأغاني الحزينة.

أتساءل دائماً عن سرّ ذلك الارتباط الحميمي المقدّس بين الدير وأدبائها، يبحثون فيها عن قصيدة أو قصة أو رواية، عن حبّ فقدوه، أو صديق عتيق، أو سهرة "چرداق" مطلٍ على جسرها، الذي كان معلّقاً، وأضحى اليوم حكايةَ فاجعةٍ غافية على الفرات.

بالنسبة إلي، لم يشكّل نبأ وفاة تميم مجرد حزن لفقدان كاتبٍ أو غياب شاعر، بقدر ما كان غضباً قديماً ظلّ يلتهمني منذ غياب كاسر حبّاش ثم خليل كرك فـ صخر العبد الله وإبراهيم خرّيط، والذبيح بشير العاني، في صور موتٍ عبثيةٍ، تشابه حيواتهم داخل مدينةٍ لم تغبْ عن سطور قصائدهم وقصصهم وحَكايا الحنين فيها، فغابوا عن سطور حواريها وحكايا الديريين!

أعلم جيداً بأن البعض من أبناء مدينتي سيصنّفني بخانة المتحاملين عليها وعلينا، نحن أبناءها العاقّين، لذلك سأسرد عليكم ما حصل قبل تميم بعقدين ونيّف، حين كنت أتردّد إلى مكتبةٍ يعرف قاعاتها جميع طلاب الدير الدارسين في جامعة دمشق؛ اسمها الكريه يمنعني من ذكره.

خلال تواجدي في إحدى المرات، خرجت من قاعة القراءة متوجهاً كعادتي نحو صالة (الأرشيف)، ولا أعلم حينها ما الذي دعاني لرفع نظري، ولأول مرّة، نحو سقفها المرتفع.

تدلّت من زاوية السقف ستّ لوحات كبيرة ضمّت كل واحدة منها صورة ضخمة لكاتب سوري مميّز ساهم في إغناء المكتبة بمؤلفاته وبكتبٍ ثمينة تبرّع بها، وكُتِب بجانب كل صورة شرحاً عن صاحبها. اثنان من تلك اللوحات خُصّصت لكاتبين وأديبين من مدينتي؛ الأولى لـ عبد القادر عيّاش والثانية كانت لـ سعد صائب. تسمّرت في مكاني لأكثر من نصف ساعة وأنا أتفرّس صورتيهما وأقرأ ما كتب بجانبيها.. أذكر تماماً بعض ما قرأته عنهما، الأوّل له أكثر من سبعين مؤلفاً في التاريخ والآداب، والثاني تجاوز التسعين في كتابة الأدب والفكر والترجمة عن الإنكليزية والألمانية.

كنت وقتذاك في العشرين من عمري، وكنت حينها قد قرأت للعديد من مؤلفي سوريا وعرفت أسماء غالبية أدبائهم وشعرائهم وكتابهم، كالعجيلي وسليم بركات ورياض صالح الحسين، كنت أعرف الماغوط وفايز خضّور وزكريا تامر ووليد إخلاصي، كنت أقرأ لغادة السمّان وحيدر حيدر وصادق العظم. كنت أعرفهم وأعرف الكتّاب العرب أكثر منهم، وأقرأ لمؤلفي غرب العالم ومشرقه كذلك أيضاً..

كنت، وأنا في سنّ العشرين، أعرفهم كلهم وقرأت لمعظمهم، ولكن لم أكن أعرف من الدير أحداً قبل رؤيتي لتلك الصور. أما الشاعر محمد الفراتي، فلم أكن لأعرفه رغم قصيدته "نهر الفرات" التي ضمّها كتاب اللغة العربية المقرر في المدرسة، وعلمت بأنه ابن المدينة لاحقاً بعد نصب تمثاله عند باب المركز الثقافي من خلال لوحة التعريف المنقوش عليها نبذة عن حياته؛ وحتى ذلك التمثال لم يسلم من سخريتنا وانتقاداتنا لتاريخ الشاعر الفراتي، الذي ما زلنا نجهل بأنه أول من ترجم قصيدة رباعيات الخيام عن الفارسية!

هزّتني من العمق كلمات الرثاء التي وجهها الصديق إسلام أبو شكير لرفيق دربه تميم حين قال: "من يعرف تميم صائب يدرك إلى أيّ درجة فرّطت هذه البلاد التافهة بمبدعيها، أيّ نوع من الجرائم ارتكبت بحقّهم، ويزداد الأمر بشاعةً حين تقارن طاقة تميم المذهلة بأولئك الذين لا يحسنون أكثر من فكّ الحرف، ومع ذلك هم ولاة أمر الكتّاب والأدباء والفنّانين".

أما أنا، فلن أتحدّث عن تميم صائب، ولا عن شاعريته، ولا عن أدبه ومؤلفاته؛ ولن أتكلّم عن تأسيسه لأول دار نشر في الدير ساهمت بطباعة قصائد وقصص شعرائها وأبنائها الجدد وأخرجت أوراقهم إلى النور قبل أن تحترق داخل أدراجها بمدافع وطائرات مؤسس تلك المكتبة في دمشق. ولن أسرد لكم قصص أقرانه الذين لفظناهم ورميناهم خارج ذاكرتنا، فاحتضنهم الفرات، أو لاذوا بمدنٍ لا يهزّها حنين غريب ولا قصائد الفرات.

لكن دعوني أدعوكم لنكفّر عن ذنوبنا لوحدنا، دعونا نبحث عن سطورهم بمفردنا؛ وحين نجدها سنكون قد قدمنا العزاء لهم، وسيفرحون.

وداعاً تميم، وليسامحنا الله