مازالت العملة التي أصدرها تنظيم الدولة الإسلامية قيد التداول في المناطق التي يسيطر عليها شرقي ديرالزور، إلى جانب العملات الأخرى، بدفع من القوانين المفروضة لدعم ذلك التداول، على أنه لا يعني، بأية حال، الاعتقاد أن التنظيم يمتلك نظاماََ نقدياََ خاصا، أو أنه سعى لامتلاكه؛ بل يعني أن ما يجري بخصوص العملة لا يعدو أن يكون بقايا صورة فوتوغرافية أخذها لنفسه، وهي الآن تحترق.

شُغلت وكالات الأنباء والصحف والمواقع بتحليل قرار التنظيم إصدار عملة خاصة به من المعادن الطبيعية، منذ نهاية العام 2014، بعد بيان صادر عن ديوان بيت المال نشرته مكتبة الهمة التابعة للتنظيم، وجاء فيه أن (سك العملة يجري بعيدا عن النظام النقدي الذي فرض على المسلمين، وأهدر ثرواتهم) و(المختصون ناقشوا الأمر من جميع جوانبه، وتم رفع التوصيات إلى مجلس الشورى الذي وافق عليه) ورأى البيان في ذلك أحد أسباب انهيار أمريكا. بينما رأى مراقبون في الأمر مجرد استعراض للقوة، أو طريقة تمويهية لغسيل الأموال التي استولى التنظيم عليها بطرق غير مشروعة، إذ أنه من الصعب تتبع المعادن المكونة للعملة. في حين نسج المخيال الشعبي العديد من الحكايا حولها، وحلل في جزء منه الأمر كاستجابة لطلب من النظام السوري لدعم العملة السورية! وفي جزء آخر كعملية احتيال ضخمة على الأهالي تهدف لسحب القطع الأجنبي من أيديهم، وتجميعها في أيدي أمراء التنظيم وقادته للهروب بها، بعد أن يورطوا أبناء المنطقة بحيازة تلك العملة التي أصدروها.

على المقلب الآخر حلل آخرون الخطوة على أنها شكل من الاستقلال الاقتصادي بعملة ذات قيمة حقيقية، وحرباَ خفية على النظام السوري والعراقي. اللافت في الأمر أن معظم التحليلات، بما فيها بيان التنظيم، انطلقت من اعتقاد راسخ أن المعادن التي سك التنظيم عملته منها (الذهب والفضة خاصة) تملك قيمة حقيقية في نفسها بمعزل عن السوق، واعتقاد آخر بأن كل الأمور على مايرام بما يخص عملة التنظيم، وينقصها فقط ضخها للتداول. لكن تتبع المراحل التي مر بها ضخ العملة، وقبلها التهييء والترويج له، وشهادات عناصر في التنظيم ومقربون منه، وتجار من ديرالزور، يوضح أن العملية برمتها لا تعدو حماساََ مبطناََ بالجهل، ونقطة أخرى يضيفها التنظيم لنفسه في سباق رآه قادة فيه انقلاباََ على التاريخ.

التجهيز لضخ العملة

في منتصف العام 2015 ظهرت في الإعلام أنباء تفيد أن التنظيم قد سك العملة، وينوي ضخها في الأسواق، اعتماداََ على أخبار بثها التنظيم من خلال وسائله الإعلامية، فيها صور للعملة ذاتها. واعتبر البعض ذلك احتفالاََ بالذكرى الأولى لإعلانه الخلافة، واختلفت الأنباء من يومها حول قيمة الدينار الذهبي الذي سكه من الذهب عيار 21، وبحسب التسريبات وقتها فقد تراوحت أسعاره عند التجهيز لضخه بين 139 و143 دولارا أمريكيا، ثم نسي الإعلام الأمر لأكثر من سنة أخرى. في تلك الفترة يبدو أن خلافاََ حدث بين قياديي التنظيم حول العملة، فبحسب أحد المطلعين فهناك «في الدولة من لديهم سعة أفق كانوا يرون أن فرض العملة يضر بمصلحة المسلمين، كما يرون. فهم يعرفون أن اعتماد عملة ليس بهذه السهولة، وأن أحدا لن يعترف بها. أما ضيقي الأفق فكانوا مصرين على سكها وفرضها على الناس» بينما يعزو آخر من العراق السبب الذي حال دون انتشار العملة إلى خلاف بين شرعيي التنظيم، الذين وقفوا عند مسألة (التكسب الذي سيجلبه التنظيم لنفسه من خلال البدء بالتداول)، ما أبقى على العملة في «التداول الحصري، وعلى نطاق ضيق في الموصل» حيث سكت العملة الذهبية والفضية في (مركز النقد) أما العملة النحاسية فسكت في الأنبار. 

 في النصف الثاني من العام 2016 بدأ الأهالي يشاهدون العملة، بعد أن اعتمد التنظيم بدايةََ على تجار النفط في أخذ الخطوة العملية لضخها، لكن الأمر كان بمثابة تدوير لها بين أجهزة التنظيم المختلفة، حيث فرض تسديد فواتير النفط بعملته الخاصة. ثم راح التنظيم يسلم رواتب بعض عناصره بها، ويجبي بها (الزكاة) من التجار. ومع نهاية الربع الأول من العام الجاري صار يفرض على قسم من الأهالي شراء عملته عن طريق حصر جباية الضرائب والمخالفات بها، كما فرض قوانين تلزم الصرافين والتجار بقبول التعامل بها، بحيث صار إغلاق المحل لفترة محددة، والسجن لأيام مع الغرامة، عقوبة من يرفض أخذ عملة التنظيم حين الدفع بها، كما فرض على أصحاب المحلات وضع أسعار بضائعهم بعملته. على أن التنظيم أصدر قبل كل ذلك تعليمات، ثم منشورات، ثم تنبيهات تحض على تجنب التعامل بالليرة السورية، خاصة من فئة ال 500 و1000 ليرة، لاعتقاده أن هذه الفئات بالتحديد دون رصيد!

من إصدارات داعش

اضطراب قيمتها وتحديده

ظلت العملة الخاصة بالتنظيم تشهد صعوداََ وهبوطاََ في قيمتها أمام الدولار مع صعود وهبوط الليرة السورية، وظلت أسعارها التي يصدرها التنظيم شكلية في أغلب الأوقات، حتى وصل اضطراب العملة إلى أجهزته، فبحسب أحاديث ينقلها تجار عن مدير مكتب الاستثمار، لدى التنظيم في الميادين، فإن «تجاراََ كسبوا عقوداََ للنفط من مكتب الاستثمار بدلوا كمية من العملات بالدينار الذهبي الخاص بالتنظيم، ثم سددوا ماترتب عليهم دنانير مزورة بدلا منها، مادفع (هيئة النقد) إلى إيقاف التعامل بالدينار لشهرين، ثم لتحصر التعامل فيه مع بعض التجار». كما طال التزوير الدرهم الفضي عبر خلطه بالألمنيوم، وقد غرم التنظيم مزورين ب 80 ألف دولار عن كل شخص. على أن الاضطراب جاء من أماكن أخرى.

القطعة من فئة 25 فلسا تزن 15غ نحاسا، وتساوي قيمتها التبادلية 250 ليرة سورية، وبذلك يكون سعر غرام النحاس في الفلس 16,6 ليرة. أما سعر الغرام الحقيقي في السوق فيساوي 1,6 ليرة. 

وبحسب أحد التجار فإن الدفعة الأولى من الدينار الذهبي بعيار 21 ، لكن ذلك لا ينطبق على الدينار فيما بعد، خاصة أن سعره وصل ل 121 دولارا بوزن 4,25 غ، أي بسعر 28,47 دولارا للغرام الواحد، بسعر صرف للدولار في وقتها 505 ليرة سورية، أي أن غرام الذهب في الدينار يساوي 14377 ليرة، بينما كان سعرغرام الذهب في السوق في حدود ال 19 ألفا. ويضيف أنه لو كان عياره 21 لاشتراه الصاغة، لكنهم كانوا يتهربون من شرائه، حتى أغلق الكثير منهم محلاته بعد حوادث أجبر عناصر في التنظيم صاغة على بيعهم مصوغات ذهبية بالدراهم الفضية. 

فالدرهم الفضي الذي يدخل إلى التداول كمعادل للألف ليرة سورية بأمر من (هيئة النقد\ المركزية التي تبيعه في الميادين) لا يشكل كقيمة شرائية أكثر من 900 ليرة، ليباع بعدها لصرافين ب 950 إلى 975 ليرة. فتجنباََ للعقوبات المفروضة على من يرفض التعامل به راح التجار يضعون هامشاََ على بضائعهم يسد الفجوة المالية التي يتركها تصريف تلك العملة، بحسب أحد كبار التجار في مدينة الميادين، وزاد في وطأة الخوف من العملة على الزبائن والتجار، على حد سواء، شراء البضائع من خارج المنطقة بالدولار الأمريكي وبيعها ب (عملة محلية)، وخوفهم كذلك من كسادها في أيديهم برحيل التنظيم. 

كل ذلك أنعش سوقاََ خاصة لعملة التنظيم، استثمر فيه صرافون بالعموم، وصرافون مقربون من التنظيم، أخضعهم الأخير لدورات شرعية خاصة، في وقت بدأت فيه رساميل بالهروب إلى خارج مناطق سيطرته، ودفع التنظيم عبر هيئة النقد لإعادة النظر بأسعار عملاته، ليظهر في تحديده أسعاراََ ثابتة لها. فوقف الدينار الذهبي، على سبيل المثال، عند سعر 130 دولارا مهما ارتفع سعر الأخير أو انخفض أمام الليرة السورية، وتحديد نسبة فرق صرف عملته الخاصة ب 0,02 للصرافين، لكن ذلك لم يؤثر على ثقة الناس بالعملة، أو «التمرد الصامت الذي قاده الصرافون وأصحاب مكاتب الحوالات ضد قرارات التنظيم النقدية» كما يقول أحد التجار.

لم ينته الجدل حتى الآن بخصوص قيمة المعادن التي سك التنظيم منها عملته، وأسعار بيعها كمعادن، لكن الثابت حتى الآن أن هناك فرقاََ شاسعاَ بين القيمة الشرائية للعملة النحاسية (الفلس) وقيمتها كمعدن.

أصدر قادة التنظيم عملتهم الخاصة وعينهم على التاريخ، لكنهم بدلاََ من ذلك أعلنوا أن عينهم على انهيار أمريكا، بسك عملة معدنية احتفظ بها البعض كتذكار، وتخلص منها البعض على عجل، لكن التنظيم مازال حتى الآن لا يملك أن يوزع بها جميع رواتب عناصره، ثم أنه لم يجد ضابطا لكل تلك التوليفة إلا الدولار!