على وقع صدام فصائل الغوطة: الحاجة إلى مرجعيةٍ موحدة

ليست المرّة الأولى التي تراق فيها "دماءٌ زكية" كان من المفروض أن تُهرق على جبهات النّظام ومن في حكمه من أعداء الثورة، وقد لا تكون الأخيرة ما لم يُستأصل هذا الورم السرطانيّ، ويوضع حدٌّ لفوضى المرجعيات ومحاكم الفصائل التي باتت عبئاً على الناس بدل أن تكون المعين والناصر لهم.

لن نتطرّق في هذا المقال إلى تفاصيل ما يجري في الغوطة، ولن نُصْدر أحكامنا على هذا الفصيل أو ذاك، فمثل ذلك لا بدّ له من قضاءٍ نزيهٍ يفصل بين الخصوم أولاً، يجمع الأدلة، يستجوب المتّهمين، ثم ينصف المظلوم، ويحاسب الظالم، ويردّ الحقوق إلى أهلها. وإنما سنكتفي بالإشارة إلى أحد أخطر النوازل التي وقعت فيها الفصائل العسكرية بالدرجة الأولى، وبات خطراً يهدد المجتمع السوريّ في المستقبل القريب.

إن أعظم ما أصاب الثورة السورية في مقتلٍ هو فقدان المرجعيات والرموز العلمية وتشويه صورتها، وبالتالي ضرب حاضنتها الشعبية. لا أعني بفقدان المرجعيات عدم وجودها، بل لا تزال موجودة -وما أكثرها- وكانت أحد أبرز أسباب تحريك الجماهير في بدايات الثورة، ولكنها أضحت اليوم دون تأثيرٍ يذكر!

لطالما عمل نظام الأسد -ومن هم على شاكلته- على هدم المرجعيات، سواء الدينية العلمية أو الرموز السياسية، فلقد أصر هذا النظام الفاشيّ على تدمير وتشويه صورة هذه المرجعيات، ولا مجال هنا لذكر أمثلةٍ على اغتيال النظام السوريّ للرموز والمرجعيات أو تشويه صورتها وسمعتها.

ولم يقتصر الأمر على نظام الأسد فحسب، بل تعداه إلى بعض التنظيمات الإسلامية، أخص بالذكر منها تلك التي ترفع شعار السلفية الجهادية.

إن المظلومية التي يتمتع بها أبناء هذا التيار، وخصوصاً الذين قضوا منهم سنيناً طوالاً في سجون الأنظمة الاستبدادية، جعلت منهم رموزاً مقدسة ومراجع لدى بعض التيارات الجهادية!

هل يملك هذا "الرمز" حظاً من العلم بحقّ يا ترى، وهلاّ عرفنا عمن أخذ علمه؟ ليس مهماً!

"دورة شرعية" لشهرين أو ثلاثة كفيلة أن تجعل من جاهلٍ قائداً، يفتي لفصيله، يُبيح له أمراً ويحرّم عليه آخر. يكتفي هذا القائد بقراءة آياتٍ من القرآن، وبعض الكتب والأحكام الفقهية، يستدلّ بها على الحكم الذي يوافق هواه، أو هوى فصيله، أو ما يقرّ له به أحد رفاق السجن وكبار المعلّمين في جامعة صيدنايا الشهيرة!

يتمّ كلّ ذلك دون أدنى إلمامٍ ربما بأبسط أدوات الاستدلال ومناطات الأحكام، أو القواعد الفقهيّة التي أُلّفت فيها المجلّدات الضخام، وأفنى فيها العلماء العظام أوقاتهم وربما حياتهم!

فالأحكام الشرعية، وكذلك المواقف السياسية وأصول الحكم، لا بدّ لها من مختصين ثقاتٍ وأصحاب خبرة، ينظرون إلى الأمور بمآلاتها، ويُنزلون الوقائع السابقة منزلة الواقع المعاش اليوم، إذ لا بدّ من قياس صحيحٍ وفق القواعد الأصولية، قياسٌ تراعى فيه المصالح والمفاسد، وينظر فيه إلى المصلحة العامة بعيداً عن التجاذبات السياسية أو المصالح الحزبية الضيّقة.

وبالعودة إلى مسألة الغوطة أعود وأقول: إن ما يجري فيها ليس بجديد، وإنما حصل ويحصل، وليس إلا تكراراً لما جرى في الشمال السوريّ عشرات المرات، وما لم يستيقظ العقلاء والوجهاء وأصحاب القرار فإننا مقبلون على ما هو أعظم وأشد وقعاً على السوريين.

لقد طرح المجلس الإسلامي السوريّ مبادرةً للحلّ وافق عليها جيش الإسلام وفيلق الرحمن. ورغم ضعف تأثير المجلس على الأرض، إلا أنه كان ولا يزال مشروعاً يسعى إلى أن يكون المرجعية الأولى لكل السوريين، خصوصاً وأن معظم من هم في مواضع قياديةٍ مختلفةٍ في الفصائل وغيرها كانوا ممن تتلمذوا وتربّوا على يد معظم علماء المجلس، كشيخ قراء بلاد الشام كريّم راجح، وأسامة الرفاعي والدكتور عبد الكريم بكار وغيرهم. ونأسف إذ نقول بأن هناك من أراد إفشال هذا المشروع، وضرب مرجعياته فور تأسيسه.

لست بصدد الدفاع عن المجلس أو الترويج له، وإنما ما أراه هو ضرورة التصدي لهذا الخطر المحدق والسيل الجارف، في ما لو استمرت العبثيّة بهذه الطريقة، تنهش أجساد السوريين، وتبيح دماءهم هنا أو هناك، كل ذلك للأسف بفتاوى رخيصة وأهواء شخصية بعيدة كل البعد عمن يدعي أنه خرج لأجل الدفاع عن الشعب!

ستكتشف الأطراف المتنازعة في الغوطة أن مُضيّها في الحلّ العسكريّ لن يزيدها إلا فرقةً واختلافاً، وأن طرفاً منها لن يكون بمقدوره القضاء على الآخر، وأن نزاعها سيكون بمثابة إطلاق الرصاصة الأخيرة على ثورتها.

تداركوا ثورتكم يا أبناء الغوطة، واعلموا أن خسائركم اليوم لن تعوّض وستكون أكبر غداً، وأن إمكانية التحاكم اليوم قد تصعب عليكم غداً، وما يصعب عليكم غداً قد يكون مستحيلاً بعد غد!

إذاً... لا بد من قضاءٍ حرٍّ نزيه، بمرجعيةٍ علميةٍ واضحةٍ معتدلةٍ كما هي سورية وأبناؤها، تدعمها قوةٌ تنفيذيةٌ من جميع الفصائل، تفصل بين أيّ أطرافٍ متنازعة، وتلزمهم بالجلوس أمام طاولة العدالة بما لهم وعليهم.