على هامش "خارطة فيينا"... مرحلةٌ جديدةٌ للتورّط الدوليّ في سوريا

استحوذ إسقاط تركيا الطائرة الروسية فوق جبل التركمان في ريف اللاذقية على المشهد السياسيّ الدوليّ في الأيام الماضية. إذ لم تعبّر الحادثة عن تباين المواقف والرؤى السياسية الذي يحكم المعسكرين "التركيّ" والروسيّ تجاه القضية السورية وحسب، بل قد تشير، بدلالتها ونتائجها وما سبقها من أحداث، إلى بدء مرحلةٍ جديدةٍ من هذا الصراع، سبق أن دشنها التدخل الروسيّ، تزامناً مع المضيّ بالتحضير لإنجاز ما يمكن إنجازه من خارطة طريق مؤتمر فيينا السياسية.

محاولات الاستئثار الروسيّ

منذ بدأ التدخل العسكريّ الروسيّ المباشر لصالح الأسد في نهاية أيلول الماضي، اتجهت سياسة موسكو إلى فرض وجودها كأمرٍ واقعٍ على الدول المختلفة، ومن ضمنها الدول المعادية لنظام الأسد وعلى رأسها تركيا، أملاً في إجبارهم على الاعتراف بالمصالح الروسية في سوريا والرؤية الروسية للحلّ عبر تثبيت الأسد. ونتيجةً لذلك، كان ردّ فعل المعسكر المضادّ هو العمل على إفشال المخطط الروسيّ، عسكرياً عبر دعم الفصائل التي تستهدفها طائرات موسكو، وسياسياً بالثبات على الموقف الرافض لبقاء الأسد. ومع مرور الوقت وعدم تحقيق موسكو أيّ إنجازٍ فعليّ، عُقد مؤتمر فيينا الذي اعترفت اجتماعاته ومقرّراته بحقيقة الدور الدوليّ في القضية السورية، فأوكلت عدّة مهماتٍ توافقيةٍ للدول المعنية، منها تعهد جميع الدول باتخاذ الإجراءات التي تمكّن من تنفيذ وقفٍ لإطلاق النار تزامناً مع بدء العملية السياسية المزعومة، وبذل الجهود لعقد اجتماعاتٍ تضمّ وفود المعارضة والنظام مع نهاية العام. وبناءً على ذلك تولت العربية السعودية مهمة جمع المعارضة السورية في مؤتمرٍ سيعقد في الرياض في الأيام القادمة، بعد دعوة العديد من الشخصيات المعارضة من التيارات المختلفة على رأسهم الائتلاف و15 ممثلاً لفصائل عسكريةٍ ثوريةٍ فاعلة. بينما عملت موسكو على إيصال المزيد من الرسائل إلى الدول الأخرى، تفيد بأن الوجود العسكريّ الروسيّ إستراتيجيٌّ يهدف إلى الدفاع عن مصالحها في دولةٍ تقع ضمن مناطق نفوذها الفعليّ، وذلك عبر تعزيز هذا الوجود، وفرض تأجيل الحديث عن مستقبل الأسد على الأطراف الدولية، أملاً في حدوث تغييرٍ في مواقف الدول الكبرى وسلم أولوياتها، على وقع هجمات تنظيم داعش الإرهابيّ في أوروبا، ومساعي موسكو وحلفائها من الميليشيات الشيعية لتحقيق بعض التقدم على الأرض.على ضوء كلّ هذه المعطيات، أسقطت تركيا الطائرة كرسالةٍ مفادها أنّ روسيا ليست وحدها في سوريا.

حربٌ "باردةٌ" صغرى

رغم اكتفاء موسكو بفرض مجموعةٍ من الإجراءات و"العقوبات" الاقتصادية على تركيا، كردّ فعلٍ على "طعنة الظهر" التي تعرّضت لها، حسب تعبير الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ورغم مسار التهدئة الذي اتبعته أنقرة عبر تصريحاتٍ متعدّدةٍ لمسؤولين أتراك على رأسهم رئيس الوزراء داود أوغلو، الذي دعا روسيا إلى العمل من أجل التهدئة مبيناً أنّ علاقات البلدين تقوم على أساس المصالح المشتركة؛ جاء ردّ فعل موسكو متطابقاً مع النهج الروسيّ والأسديّ أيضاً. إذ استهدفت الطائرات الروسية مراكز النشاط الإنسانيّ في ريفي إدلب وحلب، كمراكز الدفاع المدنيّ في معرّة النعمان، وقافلة شاحناتٍ في معبر باب السلامة الحدوديّ، موقعةً ما يزيد على 20 شهيداً، ومجزرةً أخرى راح ضحيتها أكثر من 40 شخصاً جرّاء استهداف السوق الشعبيّ لمدينة أريحا، كما لم توفر كتائب الجيش الحرّ والفصائل الأخرى المدعومة من أعداء النظام، بمن فيهم التشكيلات المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وفق ما جاء على لسان السيناتور الأمريكيّ جون ماكين. يضاف إلى ذلك شنّ غاراتٍ على الكتائب المقاتلة في ريفي حلب الشماليّ والجنوبيّ، بالتزامن مع خوض هذه الكتائب معارك طاحنةً ضدّ الميليشيات الإيرانية من جهة، وضد تنظيم داعش من جهة، وضد ميليشيات حزب PYD من جهةٍ ثالثة. فيما جاء خبر نشر صواريخ S400 المضادّة للطائرات في مطار حميميم في اللاذقية ليبعث رسالةً سياسيةً مفادها أنّ الموقف الروسي لن يتغيّر.

لكن، بالمقابل، يشير العديد من المراقبين إلى أن الموقف الروسيّ بات مهزوزاً لارتباطه، يوماً بعد يوم، بقضية الدفاع عن النظام، في وقتٍ ترتبط فيه مصالح الدول المعارضة لبقاء الأسد بملفاتٍ تتعلق بشؤونها الداخلية، كملف البي كي كي بالنسبة إلى الأتراك ووقف المدّ الإيراني بالنسبة إلى السعودية. ومن جانبٍ آخر تلعب هذه الدول دوراً أساسياً في أيّ إستراتيجياتٍ دوليةٍ تهدف إلى القضاء على تنظيم داعش، ما سيدفعها إلى عدم التهاون مع المشيئة الروسية المحصورة في زاوية الرؤية الأحادية للقضية السورية عبر ضرب أعداء الأسد وتصفية الثورة تحت شعار مكافحة الإرهاب، مما يرجّح التوقعات بمزيدٍ من حوادث التصادم الدوليّ على أرض السوريين وحساب أرواحهم، تحت مظلات الأحلاف الجوّية وغرف العمليات المشتركة، إلى أن يحدث اختراقٌ ما.