دوما - سيريا غراف

يحكى أن رجلاً عاش فقيراً رغم أنه من عائلة ثرية، ولكن إخوته حرموه ميراثه، فما كان منه إلا أن عمل بالسحر وضرب المندل من خلال «طاسة»، وهي وعاء يشبه الصحن يضع فيه ماء ويمارس من خلاله رؤية الطالع وفك طلاسم الحظ وجلب الحبيب. وحين سمع إخوته بذلك خافوا أن يؤثر على سمعتهم فأتوا يلومونه ويطلبون منه العودة، وأعطوه مالاً كي يتوقف عن ذلك العمل فقبل، ولكنه خاف أن يثور عليه البسطاء الذين زرع في قلوبهم الأمل فاختلق خدعة جديدة لتبرير اعتذاره عن ممارسة السحر بجملة «ضاعت الطاسة».

يعيش أبناء الثورة خلال الأشهر الماضية، منذ سقوط حلب، حالة من الضياع، بين الإيمان بثورتهم التي عاشوا تفاصيلها وصراعاتها، الثورة التي أكلت أبناءهم وبيوتهم ومدخراتهم، متمسكين بمطلب التغيير، وبين الترهل الذي أصاب قضيتهم ومطالبهم البكر في الحرية والكرامة، لتتحول إلى اقتتال داخلي ذهب ضحيته المئات، في محاولة كل فصيل السيطرة على ما تبقى من الأراضي المحررة بعد أن قضمت كل من داعش و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) وقوات الأسد أجزاء منها.

بين هيئة تحرير الشام التي سيطرت على معظم محافظة إدلب في تموز الماضي، لتحد إلى درجة كبيرة من وجود حركة أحرار الشام في المنطقة، مخلفة عشرات القتلى، إلى الاقتتال المتجدد في غوطة دمشق بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن من جهة ثانية، مروراً بالاتفاقيات مع قوات الأسد والتي أفضت إلى تهجير الكثير من الثوار وعائلاتهم إلى مخيمات في إدلب وريف حلب، والشائعات التي تتحدث عن اتفاق روسي تركي للتدخل في محافظة إدلب، وقوات قسد التي سيطرت على نصف مدينة الرقة والكثير من القرى المحيطة بها بدعم أميركي، وتقدم قوات الأسد في البادية السورية لتطرق أبواب دير الزور؛ يقف معظم أبناء الثورة في حالة وجوم أمام خيارات مدنهم المستغلِّة والمستغلَّة في آن واحد.

لعل الآمال التي جعلت معظم أبناء الثورة يحتملون ما عانوه من قصف متكرر ومجازر من قبل قوات الأسد، خلال السنوات الخمس الماضية، قد بدأت تفقد روحها وأصالتها، لتغدو المقارنة اليوم بين الرغبة في الحياة، كغريزة فطرية تتكون في الانسان مع لحظة صراخه الأول وحتى تمسكه بالتراب في لحظته الأخيرة، وبين انتظارهم للموت يحضنون أطفالهم تحت أنقاض بيت مهدم، أو في شوارع باتت مهزومة منكسرة جراء الصدامات الأخيرة.

ماذا يفعل الناس؟ أيحملون ما يقدرون على حمله من ثياب وذكريات ويحثون خطاهم ليقفوا في مفترق الطرق؟ أيتوجهون نحو مناطق نظام الأسد حيث يقطن من قتل أبناءهم وشردهم من بيوتهم؟ أيكون القاتل هو المنقذ؟ أيتوجهون في لحظة مجهولة المصير إلى المكان الذي طالب فيه معظم السكان بإبادتهم؟ حيث النساء تزغرد على صوت الطائرات الروسية ويلوح الرجال لطياريها بإشارات النصر. وإذ لا تخلو عائلة في المناطق الثائرة من معتقل أو شهيد سيصبح عليها، إذاً، أن تحبس الدمع وتكتم النفس وتردد بصوت جهور أمام قنوات الأسد: «الإرهابيين هجّرونا من بيوتنا»؛ «الله محيي الجيش»؛ «بالروح بالدم نفديك يا بشار»، واصفة أبناءها وإخوتها بالمرتزقة والعصابات المسلحة!

أم عليهم التوجه نحو مناطق سيطرة قسد حيث الكرد يصنعون حلمهم الضائع ببناء دولة لا يعرفون بعد شكلها ولا قياسها، مستغلين المتاح ريثما تحين ساعة الحسم، في سيناريوهات غامضة يراها البعض بداية لحكم ذاتي في مواجهة أصوات الموالين للأسد بوجوب إعادة السيطرة على مناطق الكرد وإعادتهم إلى «حضن الوطن»، لينتظروا من جديد فرصة أخرى أو «لوزان» آخر يمنّيهم بالقليل من الأمل، ويستغلهم من جديد ثم يتركهم مطموسي الهوية كورقة للضغط في المجتمع الدولي الجديد القديم. ولكن عليك أن تفكر، أثناء التوجه إلى مناطق الكرد، أن تتعلم لفظة «رفيق» أو «هافال»، كصك مرور، وأن تنتظر كفيلاً كي يسمحوا لك بالعيش.

أم عليك البقاء مكانك محتملاً جوعك مترقباً موتك في ظل القصف والحصار والاقتتال الداخلي وتضاؤل الحلم، منتظراً ما تحمله الأيام القادمة من طرق جديدة للموت، لتكون شاهداً على انتكاسة روحك وأنت ترى إيمانك يتبدد من بين أصابعك، ولتغزو ملامح الواقع الجديد كل ذلك الشعور بالقشعريرة التي منحتك إياه هتافات المظاهرات الأولى وأخبار الانتصارات القديمة، وأحلام اليقظة في بناء وطن كما يجب لا كما يكون.

بين أن تحمل الطاسة لتزرع الأمل الكاذب، أو أن تسلمها لغيرك، أو أن ترميها لتستمر في حياة لا تشبهك وتقول «ضاعت الطاسة»... يقف أبناء الثورة على عتبات الحيرة والنسيان.