صدام الجمل المُجرم الذي التقطته داعش فزاد إجراماً

تغيّرت الكثير من الأمور منذ أن كانت تُرفع اللافتات في مدينة البوكمال لتحيّة «القائد أبو عدي النعيمي» صدام الجمل بعد تسلّمه منصب القائد الثوري للجبهة الشرقية في هيئة أركان الجيش الحرّ المُشكّلة حديثاً آنذاك، وتخرُج بعد ذلك المسيرات لتفديته بالروح والدم على مواقف له في مدينته، لكن ليس من بين تلك الأمور المتغيرة الجمل نفسه.

ينتمي الجمل، المُتحمس للتظاهر والقتال من أجل المنخرطين فيه، لزمرة (ولد البلد)، الجماعات المحلية المنتشرة في المُدن الصغيرة وعلى أطراف عواصم المحافظات تربطها عصبية المكان. والبلد هنا مدينة البوكمال ذات التركيبة العائلية في محيط عشائر الريف. ويتقاطع أفراد هذه الزمرة بحمل همّ الدفاع عن مصالح العائلة فالحي فالبلد ضد أي منافس خارجي على مكانتهم، وبشرط التعامل معه باللغة المألوفة السهلة، لغة القوة، لكن ذلك لا يضمن عدم انحراف تلك الزُّمرة لجماعة خارجية فائقة القوة، إلى الحد الذي تنقلب فيه على مجتمعاتها.

ليس جديداً التباس مواقف أفراد من تلك الزمرة واستعصاؤها على التصنيف أو التوقّع، بحيث لا يُشكّل الجمل استثناءً قياساً لقادة ومقاتلين آخرين تقلّبوا، ومازالوا يتقلّبون، بين صفوف كتائب الجيش الحر ومنظمات المجتمع المدني والفصائل الإسلامية وتنظيم الدولة وقطعان الدفاع الوطني وحزب الله وتنويعات ميليشياوية أخرى من الحرس الثوري. أو قياساً لمُخبرين ورُصّاد ومُرتزقة. لكن موقع مدينته على الخارطة ضمن الشروط السياسية وقتها، وجرأة الجمل التي اكتسبها قبل الثورة من العمل في الممنوعات والتهريب والنزاع مع أجهزة الأمن في المدينة الحدودية، إلى جانب انعدام المسافة بينه وبين جمهور انطبعت في مخياله صورة وحيدة عن القائد، يُجسدها الرئيس العراقي السابق صدام حسين، جعله يتحول من (أبو عبيدة) إلى (أبو عدي) بعد مشاركته في تحرير مدينة البوكمال ومطار الحمدان خريف العام 2012، ولكن كذلك بعد ظهور مُزاحمين له على قيادة المدينة.

حتى اشتداد عُود جبهة النصرة بانضمام غالبية أفراد كتيبة جنود الحق ذات التوجه السلفي لها بقيادة فراس السلمان، لم يكن صعباً تنقّل الجمل بين الدّشم التي راحت ترفعها الفصائل في وجوه بعضها البعض، مستنداً إلى روح الرفاقية التي تجمعه، ولواؤه الله أكبر، بالمقاتلين. بالغالب كان ذلك مبشراً بالنسبة للجمل، كون السيطرة في مُتناول اليد حين سيقترب من الزعامة -إحدى البشارات سحب اسم لوائه الله أكبر على المدينة- لكنّ ذلك لم يعدْ متاحاً بعد تضخّم قوة (النصرة) وتنافرها معه، وبالتالي انفصال الأنداد وابتعادهم. ومع امتلاك قابلية دائمة لخلق أعداء يُهددون البلد، واستعداد دائم للقتال، شارك الجمل بعناصره في معارك بدائية صغيرة متفرقة، في النصف الأول من العام 2013، لم يكن أفظعها في ريف الحسكة لجلب انتصارات ودماء ودعم عابر للحدود وقمح، ولا أقربها في ريف البوكمال ضد عشائر بمحيط المدينة لتثبيت ملكية آبار النفط والبحث عن شبيحة محتملين.

من الصعب فصل الخلافات السياسية للدّاعمين وقنواتهم عن الخلافات المحلية للجماعات المتنافسة على السيطرة، أو فصل الخلافات عن العلاقات الموروثة، بحيث سبّب التوجه التدريجي نحو قتال القاعدة ثم الدولة الإسلامية مأزقاً للجميع. والجمل، الذي صار تمدّدُ جبهة النصرة في مدينته يُهدد سلطته الجديدة، اختار قتالها في صفوف ألوية أحفاد الرسول بداية الثلث الأخير من العام 2013، على قتال الدولة الإسلامية التي أجهزت على أخيه أحمد في معمل الغاز كونيكو بصمت قبل أن تقتل (النصرة) أخاه عامر نهاية العام 2013، التي شهدت محاولة عامر ثنيَ شقيقه صدام عن مُبايعة (الدولة) ثم أخذ مكانه في قيادة اللواء الذي تركه بسلاحه الخفيف، وتوجه بالثقيل لقادته الجدد في الرقة.

قفز الجمل ببيعة (الدولة) على خطرين مُتداخلين هددا حياته مباشرة، (النصرة) و(الدولة)، وأمدّا بعضهما البعض بالعناصر والعبوات الناسفة، وكانا ما يزالان يبعدانه عن زعامة المدينة، ففضّل الانصياع للدولة، المُنافس الخارجي فائق القوة، على الانخراط مع الأنداد في الجبهة وغيرها من الفصائل المحلية، وسط فوضى تضرب الجميع، ودماء بدأت تسيل تنبِىء أنه لم يعدْ مكان للتراجع.

قضت المجزرة التي نفّذتها (الدولة) عند دخول البوكمال بقيادة الجمل، وراح ضحيتها أكثر من خمسين شخصاً، على آخر محاولة مقاومة محلية، اعتماداً على الروح الرفاقية والنخوة التي دفعت الشباب للنزول إلى الشوارع لصد (الدولة) التي لم يكونوا خبروا دمويتها الفائقة وقتها، لذلك كان الردّ على الروح الجريحة بالتمثيل بجثة نادر شقيق صدام الآخر بمشهدية جعلت السرديات تُحيل، بأثرٍ رجعي، بيعته السابقة للتنظيم إليها.

صقل التنظيم دموية الجمل واستعملها في تشتيت خصومه، قبل أن يُسيطر على البوكمال بتواطئ البعض منهم، ليكمل الجمل مسيرته كأحد أعلام التنظيم المحليين إلى حين اعتقاله. وسيظل نموذجه المغامر يستهوي معجبين من أبناء المدينة، بينما يراه الغالبية مجرماً، ولأسباب لا تتعلق بالضرورة بتصنيف «الدولة» جماعة إرهابية.