صحيفة الفرات عندما تشبه سوريا التي يريدها الأسد (تجربة شخصية)

رغم مرور السنوات الطوال على ترك العمل فيها، إلا أن معرفة الخطوات الأولى لصحيفة الفرات المحلية -شبه الميتة حالياً- وكواليس السنوات الأولى من تأسيسها، يثير فضول بعض أبناء دير الزور، ممن كانوا يعولون عليها الشيء الكثير عندما بدأت مطلع 2004، قبل أن يخيب أملهم بها في ما بعد.

صحيفة الفرات الحكومية، التابعة لمؤسسة الوحدة للطباعة والنشر والتوزيع، يمكن توضيح صورة ما جرى في أعوامها الأولى عبر تجربتي معها، التي لم تخلُ من المتاعب، ليس متاعب المهنة طبعاً، لكن متاعب أنها وليدة إعلام نظام كان وما زال الإعلام بالنسبة إليه مجرد أداة "بخسة"، حاول أن يضع في صدارتها "أراذل" المنتسبين لهذه المهنة، أو من تسلقوا عليها وامتطوا صهوتها.

طوال سني دراستي الصحافة بجامعة دمشق لم يكن طموحي أبداً العمل في وسائل إعلام حكومية، والهدف كان العمل خارج سوريا ضمن وسائل إعلامية تملك الحد الأدنى من احترام المهنة والعامل فيها.

في سنتي الجامعية الرابعة (2002) جاءت الفرصة التي أطمح إليها، لكن في الداخل السوري، عبر تجربة "الكفاح العربي" اللبنانية التي خصصت 4 صفحات من عددها اليومي للحال السوري، لتكون أولى تجاربي المهنية، التي نجحتُ بها إلى حد ما، ولمدة عام تقريباً، قبل أن ينال الصحيفة ما ينالها من تضييق دفعها إلى التوقف بشكل نهائي.

في هذه الأثناء كان مشروع افتتاح صحيفة محلية حكومية تغطي محافظات دير الزور والرقة والحسكة، يلوح في الأفق، ولاحق خريجو الصحافة من أبناء دير الزور بوادرها، وتتبعوا خطواتها ابتداء من بدء "الحلم بها"، وصولاً إلى وجودها كحقيقة.

اتصالات عدة كانت تردني من قبل من يرغبون بالالتحاق في هذا الموكب، يُجابه برفض مني لأشهر عدة، وبقى هذا الحال حتى نهاية عام 2003، عندما أقنعني عثمان الخلف - صديق سابق- بالالتحاق بمشروع الصحيفة (الوظيفة)، ريثما أتمكن من تحقيق حلم الخروج للعمل خارج البلاد.

بالفعل التحقت بالمشروع، لأكون ضمن نحو 16 من خريجي الصحافة من المنطقة الشرقية أغلبهم من دير الزور، سافروا نهاية 2003 إلى دمشق من أجل إنجاز دورة تدريبية في صحيفة الثورة، بعد انتقائهم للانطلاق بالصحيفة الموعودة، أو بالأحرى لكونهم الوحيدين الذين تقدموا إلى إدارة مؤسسة الوحدة للعمل في الصحيفة من بين العدد المطلوب آنذاك، وهو 25 من حملة الإجازة في الصحافة.

الدورة كما هو متوقع شكلية بحتة، كانت عبارة عن التسكع لمدة أسبوع في طوابق مؤسسة الوحدة الـ7 وسط دمشق، دون برنامج فعلي، ودون الحصول على فائدة مهنية حقيقية.

عقب العودة بدأنا العمل في مبنى الصحيفة الكائن في نهاية شارع سينما فؤاد، وسبقنا إليها عدد من الشباب الفنيين ممن كانت دوراتهم جدّية وحقيقية ولأشهر عدة في دمشق، وكان أمامهم فيما بعد مهام صعبة جداً، منها تشغيل مطبعة لم تكن أكثر من "خردة" مطبعة قديمة لجريدة الثورة أُهملت لعقود، وجاء الوقت -مشروع صحيفة الفرات- لإعادة إحيائها.

 أوائل 2003 بدأت محاولات الأعداد التجريبية من قبل محمد خير الجمالي رئيس التحرير المكُلف من قبل إدارة المؤسسة، ويساعده كأمين تحرير مراسل صحيفة الثورة في المحافظة عبد اللطيف الصالح.

الجمالي وللأمانة كان يمتلك من المهنية الشيء الكثير، وكان في موقع تحدٍ بأن يُوجد "شيء" من "شبه لا شيء"، واصطدم بضعف مهني كبير لدى أغلب الكادر، وعلى رأسهم خريجي الصحافة أنفسهم، ممن كان جلهم يملك رصيد "الصفر" في المجال الإعلامي العملي، و"ورقة" تخرجه الجامعي أوجدته في هذا المكان، وليس أي شيء آخر.

الجمالي "غرّه" أنني أملك حياة عملية بسيطة بعد التخرج ليجبرني بقرار رسمي على استلام "قسم التحقيقات"، إضافة إلى عثمان الخلف الذي يملك رصيداً جيداً من الثقافة الشخصية تؤهله للانطلاق على الأقل بمساعدة شهادته الجامعية في هذا المجال، ليُجبر بدوره على استلام "قسم المحليات".

الأعداد التجريبية استمرت لما يزيد عن شهرين صدر منها نحو 10، وكان يحتاج العدد الواحد (8 صفحات فقط) جهوداً كبيرة من رئيس مؤسستها مفيد خنسة، الذي كان نجاح إصدار صحيفة مشروع تحدٍ بالنسبة إليه، مروراً برئيس تحريرها وأمينها وثلة من موظفيها الصحفيين، وصولاً إلى الفريق الفني الذي قدم إنجازاً بإيجاد "شيء من لا شيء"، رغم عمل أعضائه في ظروف وأدوات أقل ما يقال عنها بأنها "سيئة".

لا يمكن هنا نسيان تعيين حوالي 5 من خريجي الإعلام ما بين الرقة والحسكة من أبناء هاتين المحافظتين، لتغطية الأخبار وإرسال تقارير ومواد صحفية عن مناطقهم؛ عانى رئيس التحرير "الجمالي" من ضعف الأداء المهني لمن هم في الحسكة، مع استقرار إداري -وإلى حد ما "مهني"- لأقرانهم في الرقة، الذين تفوقوا على دير الزور والحسكة تنظيماً وأداء وإدارة.

انطلق العدد الأول رسمياً بداية الشهر الثالث 2004، وكان العدد الواحد يحتاج أحياناً العمل أكثر من 16 ساعة متواصلة. بيعت نسخة الصحيفة بليرتين، وإضافة إلى الراتب الشهري، كان رئيس التحرير يتقاضى ما يقرب من 10 آلاف شهرياً (وفق نظام الاستكتاب)، وأمين التحرير 8 آلاف ليرة، بينما يتراوح (استكتاب) المحررين ما بين 2 و5 آلاف. ويمكن قياس تصاعد عمل الصحيفة تدريجياً بعد أشهر من انطلاقها، بالنظر إلى ارتفاع عدد نسخها من 15 ألف نسخة حتى 22 ألفاً، تُوزع ما بين البيع المباشر، والاشتراكات في دير الزور والرقة والحسكة.

لكن بالمجمل كان الضعف المهني سيد الموقف وواضحاً ومرافقاً للصحيفة طوال سني عمرها، ورافقه في الأعوام الأولى ترهل إداري، وصراعات و"حفر" الأشخاص لبعضهم البعض، وبشكل غير طبيعي ومخجل ومعيب، ومن أجل ثمن بخس.. و"مناصب" معدودة مترهلة المكانة والأهمية.

بدأ توافد عدد من أصحاب الاختصاصات الأخرى لمهنة التحرير، التي أصبحت ديدن وهمّ وهدف القاصي (من خارج الصحيفة) مثل إبراهيم الضللي (خريج حقوق)، والداني (من موظفي الصحيفة في الأقسام الأخرى) مثل فراس القاضي (عامل مونتاج)، ووائل حميدي (أمين مستودع).. لكن كل ذلك حصل ما بعد مغادرة الجمالي لرئاسة التحرير.

بدأت التحركات ما بين دمشق ودير الزور من أجل "زحلقة" الجمالي، وإبداله بآخرين من "أبناء البلد" الذين اعتبروا أنفسهم أحق بهذا المكان. بالفعل لم تمض أسابيع حتى وجدنا جمال بلاط رئيساً للتحرير، لتنطلق عقبها صراعات جديدة بين ما يمكن وصفهم بجماعة "مدينة الميادين" المنحدر منها رئيس التحرير الجديد، محاولين إنجاح الصحيفة بقدر الإمكان بهدف ربط هذا النجاح بالرئيس الجديد لها، وما بين مناهضين لهم سبحوا بعكس تيار من يناهضون، مع التنويه أن كلا الفريقين ضم أعضاء من كافة الأقسام، خاصة الفنية والإدارية منها.

الاصطدام كان سيد الموقف بالنسبة إلى بعد قدوم جمال بلاط، تزامناً مع خلافات مهنية وإدارية وقانونية جوهرية استمرت حتى رحيله بعد أشهر معدودة فقط من تسلمه منصبه، لكن الود والاحترام لم يكن غائباً بيني وبين الرجل أثناء وجوده في منصبه، وما بعد مغادرته له، رغم كل الخلافات.


البديل كان عبر عدنان عويد الشخصية "البعثية" القادمة من "مدرسة الإعداد الحزبي"، الذي لم يكن انعدام المعرفة المهنية المثلبة الأكبر لديه، بقدر ما كان نهجه "التزلفي" تجاه مسؤولي المحافظة والفروع الأمنية، وبشكل يتجاوز الحدود المعروفة. 


عند هذا الحد كان اليقين (المستمر حتى الآن)، أن البلد لا يمكن الحديث عن صلاحه وبنائه ومواجهة فساده وإفساده بوجود النظام ورئيسه، وبالتالي القضية ليست صحيفة محلية ولا رئيس تحرير.


الذهاب للجيش كان الخيار الوحيد، على أمل أن تحمل سنوات ما بعده الأمل بالتغيير. لكن للأسف، بعد انقطاع عام ونصف، كان الأسوأ هو المسيطر بعد أن دحر السيء، لتكون العودة في الشهر السادس من عام 2006 مع "انكفائي" بقرار ذاتي، لأداء مهام وظيفية روتينية فقط، تزامناً مع العمل في صحيفة "الوطن" اليومية حديثة العهد لتغطية أخبار دير الزور ضمن صفحاتها.

حالة اليأس من إصلاح ما يجري تمثلت عام 2006 ضمن اجتماع داخل أروقة الصحيفة، أداره مصطفى عبد القادر أحد المسوؤلين الحزببين في المحافظة آنذاك مع كوادر الصحيفة، لبحث أسباب تدهور عملها، ومعرفة إن كان تعيين عويد كرئيس تحرير (قادماً من هيئة الإعداد الحزبي) هو السبب في ذلك.

عندما جاء دوري امتنعت عن التعليق بأية كلمة، رغم الإصرار من قبل المسؤول (الحزبي) والزملاء الحاضرين.
بعد الاجتماع طلب مني زميلي أحمد يساوي الكشف عن السبب بشكل شخصي، فكان ردي أن مشكلتنا ليست في رئيس تحرير ولا حتى في وزير إعلام، المشكلة أعمق من ذلك، وسيكون كلامنا عبثياً ولا طائل منه إن ظننا أن المشكلة في رئيس التحرير الحالي، أو في شخصية مسؤول أو وزير، مشكلتنا هي في عقلية بلد يحكمه الأسد بعقلية "أسدية"، وبوجوه وأدوات "أسدية".

أي تغيير لن يقدم أو يؤخر شيئاً، إذا كان القادم الوجه ذاته، تديره العقلية ذاتها، لكن باسم آخر وشكل جديد.
لم تمض أسابيع على الاجتماع المذكور حتى جاء قرار فصلي من الصحيفة دون تبيان الأسباب، وبعدها بأيام سافرت إلى دمشق للقاء خلف الجراد مدير عام مؤسسة الوحدة، التي كانت الفرات أحد إصداراتها كما ذكرت بداية.
 لقاء لم يتجاوز دقائق فقط، مختصره أنني -حسب قوله- فُصلت لأن عقدي المؤقت انتهى، وتم إيقاف إجراءات عقدي السنوي بعد أن وصل لمرحلته الأخيرة. وكان العرض من قبل الجراد أنه بإمكاني العودة، لكن ليس إلى قسم التحرير، وإنما إلى قسم التدقيق اللغوي، "ويُمنع أن تكتب كلمة واحدة في الصحيفة".

وعندما كان جوابي أنني خريج صحافة ولا أعمل إلا باختصاصي، كان رد الجراد بجملة أنهت اللقاء: "ودخيلك مين بهل البلد شاغل باختصاصه"!.. (الجراد شغل فيما بعد منصب السفير السوري في الصين)، أما عدنان العويد الذي قال قبل الثورة أمام الملأ: "الناس يعيرونني بأنني حذاء للسلطة، وأنا أفتخر بأن أكون حذاء للسلطة"! هو ذاته بعد الثورة ومنذ نحو عامين فقط، وأمام الملاً أيضاً، يُلقي في دير الزور محاضرة حملت عنوان: "المواطنة"!