سلب ورقيق ناعم في دمشق

صعقنا السؤال في ظهيرة ذلك اليوم، كان ناجي يمسك مقود السيارة بكلتا يديه، بينما أجلس في الخلف في طريقنا من جرمانا إلى مساكن برزة، قرر ناجي (صديقي سائق التكسي) اختصار الطريق لنمر من "حاجز الكباس"، عسكري غليظ الملامح يجلس هناك يرتدي قبعة كاوبوي حدق بنا، وانتظرناه كي يطلب "الهواوي"، أو فتح صندوق السيارة، لكنه سأل بكل وقاحة: "لسه في إسلام ولا أفي؟"

جمد ناجي وأنا تجاهلت السؤال، وكأن الكلام موجه للسائق فقط، خمس ثوان بطيئة لم أدرِ إن كانت وقاحة العسكري بقبعته الهزلية وأسنانه المرصوفة كيفما اتفق هي ما أرعبني، أم أنه الخوف من الجواب، ودارت احتمالات الأجوبة في رأسي: "لا ما ظل في إسلام، قتلتوهن كلن"، "نعم لسه في إسلام، ما قدرتو تقتلوهن كلن".. 
ثم رأيت ناجي يرفع كلتا يديه عن المقود، كمن يعلن استسلامه، وينظر إلى العسكري محاولاً استمالته قائلاً: "يا أخي مو كل أصابيعك متل بعض"، كان ذلك المثل هو التطبيق الدقيق لمصطلح "حسن التخلص"، ومع ذلك امتعض العسكري وبصق قشور البزر من بين أسنانه، معلناً انه لم يبقَ هنالك إسلام: "لا سيدي أبقى في إسلام، وروح انقلع"، هز ناجي رأسه وهو يدعس على دواسة البنزين، حتى قبل أن يمسك المقود، أردت أن أبكي، لكن ناجي أجهش بالضحك، وهو يتمتم: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

قبل أيام من تلك الحادثة، قامت عصابة من الأطفال بسلب ناجي جهازه الخليوي وكل ما يملك، لم يتجاوز أكبرهم الاثني عشر عاماً، كانوا مسلحين بأسلحة بيضاء كالسكاكين والشنتياناتات: "عرفت شو بدي ساوي، بعرف إنو هدول بكون في مين عم يحميهم من بعيد، قررت ما قاوم، عطيتن الموبايل والقروش اللي معي.. كان ناقص بس يشلحوني السيارة".

عصابات الأطفال تلك انتشرت كنتيجة للفلتان الأمني، وعادة ما كانت تختص بسلب ونهب الأطفال المنفردين عن ذويهم في الحارات والأزقة، لكن على ما يبدو وبعد انتباه الأهالي لهذه الظاهرة، بدأوا يعملون على مستوى آخر وهو سلب الكبار. تعمل تلك العصابات تحت غطاء من أشخاص معروفين للأمن، ويشير بعض الأهالي إلى أن أحد المتنفذين في المنطقة يحميهم. يقول ناجي: "ما تدايقت ع الموبايل والمصاري، بس منظر الولاد مع سكاكين بيحرق القلب، هدول المفروض يكونوا بالمدارس"، نسي ناجي أننا في الصيف ولا مدارس، وكأن للمدارس دوراً تلعبه في حماية تلك الطفولة الضائعة، حيث لا أحد يهتم لمصير الأطفال الكارثي.

في الفصل الدراسي الأخير، زلّ لسان رندة أمام إحدى صديقاتها بأمر تقشعر له الأبدان، فالطفلة ذات الحادية عشرة تعمل في الدعارة، وتحصل على مصروف جيد من ذلك العمل. لا أحد يعلم أين اختفى الأب قبل سنوات. كانت العائلة تقيم في منزل قيد الإكساء إلى أن تقدم "أحد المحسنين" لمساعدة الأم قبل عامين، وبدأت بعض مظاهر البحبوحة تظهر على العائلة، التي انتقلت إلى منزل مكسو واشترت أثاثاً جديداً.

كانت الأم تقول أن أخاها المقيم في إحدى دول اللجوء "الله فتحها عليه وعم يبعتلي"، لكن الصدمة كانت مفجعة حين حدّثت زينة أمها بما أخبرتها به صديقتها، وعند تدقيق الجيران في الأمر وصلوا إلى ما مفاده أن الأم تعمل في الدعارة، وأن ذلك المحسن لم يكن إلا قواداً للفتيات الصغار. ثلاث فتيات تتوسطهن رندة. قام الجيران بإخبار إحدى جمعيات حماية الطفل، التي أخذت البنات إلى مركز مختص، أما الأم فلاذت بالفرار. 

يشعر المرء أن الأمر انتهى هنا، لكن الأم استطاعت من خلال معارفها من تجار الرقيق الأبيض من استعادة بناتها وأخذهن إلى مكان غير معروف، وانتهت القصة.