سرقة المقابر أسقطت كثيراً من صفحات التاريخ

من أعمال التخريب داخل الموقع | عدسة أحمد

الرّقّة درّة الفرات المستلقية على ضفتيه أيقونةً مفعمةً بالألوان، ما بدا منها، وما خفي أو أُخفي عن سوء سريرة. أنى توجهت فثمة شاهدٌ حضاريٌّ. وهذه المرّة توجهنا غرباً بين الطبقة وحلب، وتحديداً إلى قرية دبسي عفنان.

لم يكن العثور على مساعدين بالسهولة التي توقعناها؛ كثيرون رفضوا لأنهم ما زالوا مسكونين بالرهاب، ففيما مضى كان مجرد الوجود قرب معلمٍ أثريٍّ يودي بصاحبه إلى غيابات سجنٍ طويل. وآخرون مسكونون بخوفٍ ما ورائيٍّ عن عالم الجنّ والأساطير، بزعم أن الآثار مرصودةٌ بقوىً خفيّة، ومن يفضُّ أسرارها سيصاب بمسٍّ أو يُلطُّ: (اللطّ؛ اللقوة: اعوجاج الشدق والحنك جرّاء خوفٍ وفجاءة). وأخيراً وجدنا ضالتنا في رفيقين تأهبا، وانطلقنا متحزّمين ببنادق ومصابيح.
يأخذنا الطريق الإسفلتيّ الضيّق الملتوي شمالاً لنحو ستة كيلو مترات، وبعدها نستمرّ شمالاً لنبلغ البحيرة. وبمحاذاتها شرقاً نسلك طريقاً ترابياً شديد الوعورة، حتى تباغتك تلالٌ ممتدّةٌ وقد نبشت فيها حفرياتٌ قديمةٌ وحديثة.

سألنا الأهالي عنها فيما بعد فقيل لنا إن هذه المغارات نبشت في الغالب منذ أمدٍ يمتدّ بين عشرٍ إلى عشرين سنة، وهم يعرفون واحدةً هي بدر الزمان. والراجح أن هذه المنطقة ظلت بعيدةً عن دائرة الضوء على الرغم من قربها من مملكتي ايمار وبالس، وأقرب منهما آثارٌ أخرى في دبسي فرج غرباً.
قادنا الدليلان إلى أولى المقابر، ولكنها كانت صعبة المنال، فما تبقى من الباب بعيدٌ أسفل حفرةٍ عميقةٍ جداً. بدأنا التدلي بالحبال يسبقنا دليلنا المزوّد بسلاحٍ ومصباح، ولما وصل قرار الحفرة قام بتأمين المدخل مبعداً العناكب بعودٍ صغير، ثم انبطح قبالة المدخل الضيق ومدّ عنقه بعد مصباحه ليتأكد من خلوّها من أيّ حيوانٍ مفترس.

 

اثار2

موتٌ في تركة الموت

هالتني المقبرة، فقد تضمّنت عشرة قبور؛ أربعةٌ على ميمنة المدخل، ومثلها على الميسرة، حُفرت بعنايةٍ فائقة. أسقفها أقواسٌ متناظرةٌ مدهشة، أما عمقها فكان متماثلاً ناعم الملمس، تشكّل في مجملها تحفةَ فنيةً رائعةً ما زال معظمها يحافظ على شكله الأصلي دون محتواه الذي نجهله، والذي غيّب وغاب معه جزءٌ من تاريخٍ أو تفسيرٍ لمرحلةٍ من التاريخ، وكلها خاوية حتى من العظام!؟ وفي صدر المقبرة نُحت قبران أكبر حجماً رجّحنا أنهما لربّي الأسرة.

ظلت تلك المقبرة هاجساً يراودني، فبهاؤها وعظمة صنعها وإتقانها أمورٌ تدفعك إلى الاندهاش والذهول؛ أيقونةٌ متقنة الصنع والتصميم. ربما كانت مقبرةً لأسرة ذات شأنٍ من النبلاء، ولم يبق منها سوى الأحجار.
على مقربةٍ منها دخلنا واحدةً جديدةً كانت تثير الشجن والأسى، فالأمر لم يتوقف عند نهبها، بل تعدّاه إلى عطبٍ وخرابٍ أصابا جزءاً كبيراً منها، فقد حُطمت أجزاءٌ كثيرةٌ من الغرف الداخلية التي تضمّ قبوراً ثنائيةً وثلاثيةً متفاوتة الأحجام، والتي يبدو أنها كانت تحفةً فنيةً لم يبقَ من جمالها وأبّهتها إلا القليل ومع ذلك تظلُّ واحدةً من أجمل المقابر التي دخلناها.

 

مشاهد باهرة

أوغلنا جنوباً أكثر مبتعدين عن النهر، وكانت المفاجأة وجود جبٍّ لا يعرف أبناء المنطقة عنه شيئاً إلا أنـّه قديم. كانت المياه الآسنة تغطي نصفه السفلي تماماً، وتظهر منه أربع صخورٍ عظيمةٍ تشكل جدرانه، تعلوها أحجارٌ صغيرةٌ رُصفت بعنايةٍ حتى سطح الأرض. خلّفنا البئر وراءنا واقتحمنا نفقاً عظيماً تحت الأرض يمتدّ لأكثر من عشرة أمتار، غطّت التربة معظمه ولم يبقَ منه سوى القوس العلويّ الباهر الذي صُنع برهافةٍ وعنايةٍ فائقتين، ولا بد أنه يؤدي إلى موقعٍ ما بات تحت الأتربة لم نستطع الإيغال فيه

 

اثار3

بدر الزمان واسطة عقد الزمان

التحفة الثانية التي حظينا بها لم تكن مقبرةً على الأرجح، بل ربما مقرّاً أو مسكناً، فمدخلها يقبع تحت حفرةٍ كبيرةٍ حفرت بفعل فاعل. يأخذك المدخل نحو منحدرٍ شديدٍ بين صخرتين عملاقتين متوازيتين، وينتهي المنحدر بمدخلٍ تغمره مياهٌ آسنةٌ حالت دون التوغل فيها مما جعل أحد مرافقينا يعلّق: هذه المغارة مرصودةٌ بالماء. أعتقد أنها ما تزال بكراً، وهذا ينطبق على المغارة المجاورة لها التي أعطت المكان اسمَها (بدر الزمان)، لكن ليس ثمة أملٌ باقتحامها بسبب الماء والوحل.

اتجهنا غرباً، كما رجّحتُ، فهناك تفقد بوصلتك البيولوجية قدرتها على تحديد الجهات، فالأرض متشابهة المعالم، إضافة إلى حالة الذهول والإدهاش التي كنا نعيشها، ناهيك عن الرهبة والوحشة والقلق.
مقابر طابقية
وصلنا إلى مقبرةٍ جديـــــدة. ولم تكن المفاجأة الكبــــيرة في حجمها بل في فنها وعظمتها، فقد ضمّت عشرين قبراً بُنيت بطريقةٍ فنيةٍ مذهلة، فعلى الميمنة يصادفك باب مغاراتٍ داخليةٍ يضمّ كلٌّ منها ثلاثة قبورٍ على شكل صندوقٍ مفتوح، نُحتت جميعاً في جوف صخرةٍ كبيرةٍ بدقةٍ فائقة، وفي الجهة المقابلة للباب جُوّفت قبورٌ طابقيةٌ علويةٌ وسفليةٌ مخفية، لكن ثمة من استطاع الوصول إليها، وعلى الجهة اليسرى قبورٌ ثنائيةٌ عاثت بها بعض الأيدي فساداً. وقد فقدت جميع القبور محتوياتها، وإن كانت المغارة الوحيدة التي وجدنا فيها بقايا عظام؟؟! تلك العظام التي تنغرس بالقلب كما الخنجر وأنت تشاهد الخراب وقد كلل تلك النفائس.
أسئلةٌ معلّقة
ثمة ما يمكن أن يُقال وما يُسأل لكن ليس ثمة إجابةٌ بقدر الفجيعة التي أصابت هذه المنطقة؛ أين وكيف ومتى سُرقت كل هذه الكنوز واللـُقى الأثرية؟؟؟ معظم أبناء المنطقة يؤكدون أنها سُرقت منذ عقدٍ أو عقدين من قبل أشخاصٍ ليسوا من المنطقة، كان لهم من يحميهم من القانون، فمن سرقها؟؟ ولماذا لم تشر البعثات إلى هذه المنطقة؟؟ أسئلةٌ كبيرةٌ بقدر الفجوة الكبيرة التي تتركها هذه الحضارة المستباحة في صدر التاريخ؟!؟!

 

تقييم آثاري  

وللاطلاع على القيمة التاريخية للمكان استشرنا الدكتور شيخموس علي، رئيس جمعيّة حماية الآثار السورية، الذي قال: دبسي فرج كانت تقبع فوق قمةٍ مرتفعةٍ وبالقرب منها أطلال "أتيس" الرومانية Athice، وهي المدينة السالفة لقرية دبسي فرج في العصر الروماني، لكونها ملاصقة لها تماماً. وإلى الشرق منها قليلاً تقع قرية دبسي عفنان، فالقريتان متجاورتان، لا يفصل بينهما سوى بضع مئاتٍ من الأمتار، وهما من المواقع الأثرية المسجلة لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف.
في عام 1972 م، وضمن مشروع إنقاذ آثار حوض الفرات، قامت بعثةٌ أثريةٌ أمريكيةٌ، مؤلفةٌ من دومبارتون أوكس وجامعة ميتشيغن، بأعمال التنقيب الأثري المنهجي في موقع دبسي فرج. وشمل العمل جزءاً كبيراً من سور المدينة، وهو من القرن الثالث الميلادي، كما شمل منشآتٍ مدنيةٍ رومانيةٍ وبيزنطيةٍ وإسلامية، وبعض المنشآت المعمارية الواقعة خارج سور المدينة. وقد عثرت البعثة على بعض الجدران والأقواس وبعض أبراج سور المدينة، وصهاريج المياه والتمديدات الصحية، إلى جانب بقايا بيوتٍ سكنيةٍ من القرن الثاني حتى القرن السابع الميلادي  بالاضافـــــة إلى بقايا حمــــامٍ رومانيٍّ تبين أنه ظل مستخدماً حتى العصر الإسلامي، وكنيسةٍ من نمط البازليك من آخر القرن الرابع الميلادي، ذات أبعـــــــادٍ طولانيـــــة (45 × 24 م)، يمتدّ جناحها الرئيسي نحو الغرب، ويحيط بها رواقان معمَّدان. وتوجد في دبسي فرج بعض المقابر التي تكون خالية غالباً، لأنها تعرضت للنهب منذ زمنٍ بعيد.
وكانت مدينة "أتيس" تتمتع بأهميةٍ عسكريةٍ واقتصاديةٍ كبيرة، لا سيما في الفترتين اللتين قام فيهما كلٌّ من الإمبراطوريــــن "ديوقليسيان" و"جوستنيان"، بتحصين المدن والنقاط العســــكرية الواقعة على الفرات. أما بالنسبة لدبسي عفنان فهو موقعٌ مسجلٌ لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف... والمعلومات المتوفرة حتى الآن تشــير إلى أنه كان جزءاً ملحقاً من مدينة أتيس.
إن عمليات التنقيب السرّي في المدافن لن تفيد لصوص الآثار في شيء، لأن القبور خاوية، ولن يجدوا فيها سوى بقايا عظميةٍ في أفضل الأحوال. وبالمقابل فإن هذه الحفريات غير الشرعيّة تشكل خسارةً كبيرةً للآثاريين، لأنها تؤدي الى تخريب السويات الأثرية، وبالتالي ضياع معلوماتٍ هامةٍ تساعد الباحثين على فهمٍ أفضل للموقع وللعصور الزمنية التي شهدها.