رسالة إلى أمي هناك

حي مساكن هنانو - ANP

من للبيت المتعب يا أمي؟ يومَ حملتِه وجعاً في رحلتك الأولى من قريتك في جبل الزاوية نحو المدينة، حلب بعظمتها، سيدة المدائن، وقبلة الباحثين عن عملٍ وحياة.

أكنت تعرفين وقتها أن النزوح لن ينتهي؟ وأنك ستحملين في كل رحلةٍ «بقجةً» لولدٍ ينقص من أولادك، تكتفين بأثرٍ منه، تشمّينه حين يتعاظم الكرب في قلبك، ويهزك الحنين إلى مساكن هنانو، نزوحك الثاني الكيفيّ بعد أن زرعت حاكورات بيتك في حارة التراشحة بمخيم حندرات، مقامك الأول، بأحواض الورد والخس والبقدونس وشتلات البندورة.

أذكر وقتها، وكنت طفلاً في الثانية عشرة من العمر، حين ركبت في سيارةٍ تحمل أغراضنا إلى مدينة هنانو. ركبنا في الصندوق، أنا وأخَواي، ورحنا نغني «جبلنا الدم لترابو جبلنا»، ولم أعرف حينها سبب بكائك. لم يكن صوتي شجياً يا أمي، ولكن اقتلاعك من أحواض الزرع كان يعكر وجهك الأبيض وعينيك الصغيرتين المليئتين بالكحل.

في البناء رقم 16 كنا ثلاثين عائلةً من مختلف المناطق السورية، بلهجاتٍ عديدةٍ ووجوهٍ متشابهةٍ يغلب عليها التعب والفقر والحب. أكثر المتشائمين لم يكن ليدرك أن هذه البيوت التي صارت ملكاً لأصحابها، ستتركهم، بعد أن أرهقهم الإيجار وتنقلوا في كل ثقبٍ من حارات المدينة، وخبر أطفالهم كل أنواع ألبسة البالة وأحذية المطاط «أبو ريحة» وعلب المارتديلا ككرة قدمٍ والجوارب المثقوبة وبرد الشتاء والحب من على شرفات المنازل المتقابلة والعراك بالسكاكين، ووجع الاسم الذي حملته مدينة هنانو وسكانها، إذ كان ينظر إليها من أحياء المدينة الأخرى على أنها مكانٌ موبوءٌ بالإثم. لعل السبب ما كان يقال من أن «نساء بحسيتا* اللواتي سكنّ في هذه المنطقة -التي كانت كروماً قبل أن تبنى عليها المدينة- هنّ من أهدَين لهذه المنطقة سمعتها»، أم أن الفقراء وحدهم من يحتاجون إلى تبرير وجودهم في الحياة في ظل هذا الذل الذي اقترفته بلادنا في حقّ أبنائها كل هذه السنين؟

في منتصف 2012 ثارت مساكن هنانو على جلادها، صرخت بكل أصوات الفقراء فيها، نادت لأول مرّةٍ للشعب، للحرية، للكرامة، هتفت لإسقاط النظام.

من جامع عثمان بن عفان، في حيّ العمالية القريب من بيتك، كانت تنطلق المظاهرات الأولى وسط رجال الأمن والشبيحة الذين ملأوا الشوارع وتداروا في زوايا المباني وعلى أسطحتها. قتلوا من قتلوا واعتقلوا من اعتقلوا، ولكنهم لم يفلحوا في انتزاع جذور الحرية من قلوبنا، لقد تحرّر الإنسان من خوفه يا أمي.

أتذكرين حين كنت تطلبين منا عدم الذهاب إلى صلاة الجمعة؟ وكنا نذهب. أعرف جازماً أن قلبك كان يكبر بنا كلما رأيتنا مع المتظاهرين القلائل نركض في الطرقات، وكنت أراك تنظرين إليّ من خلف الستارة على الشرفة. دعاؤك يحميني في كل وقت. وعند عودتنا تقفلين الباب بالمفتاح وتتظاهرين بالنوم ودموعك تملأ الوسادة.

يوم دخل الثوار إلى المدينة، وكان حيّ هنانو أول الأحياء المحرّرة، لم يكن الأمر صدفة، ولكنه الظلم حين يطبق على الصدور فيتحول إلى هديرٍ لا يقف. يومها بكينا كلنا. كنت برفقة أصدقائي، قبلوا يدك يا أمنا كلنا. حين دخلت تحملين الشاي مازحتك، فشتمتني بأمي. كلهم استشهدوا يا أمي، وكلهم بكيتِ عليه لساعاتٍ طوال، وحملتِ آثارهم في «صرّة» نزوحك بعد أن دمرت الطائرات المبنى في تشرين الثاني 2013.

أينما تكونين يبدأ الوطن، وينتهي حين تغادرين. خمس سنواتٍ تبخرت والثورة تشفي بعض جراحك، والحلم بالعودة هو كل ما يبتدئ به دعاؤك. لم أرك يوماً تدعين على أحد، وكنت دائماً «تزاورينني» حين ألعن أو أشتم، ولكنك دعوتِ عليهم وشتمتهم.

يا دائمة الرضا، وأنت تذكرينني بأصدقاءٍ لي في المقلب الآخر حين اختلفت الخنادق. قلت لك إن المكان ما عاد يسعنا، ولكنك كنت دوماً تستريحين إلى كلمات الله وتتمثلينها دعاءً وقولاً وسلوكاً «إن الله يهدي من يشاء».

هم يوجعونني الآن بمنشوراتهم يا أمي، يتمنون إحراقك ومن معك، ويصفون أبناءك بالمرتزقة، ويجهزون أنفسهم لعرس حلب كما يقولون. يتباكون على ذكرياتهم وبيوتهم وأشيائهم، وينسون بيتك الذي لمّهم جميعاً، وأطعمهم وحماهم حين كان يعزّ الدفء والحب.

أضطر هذه الأيام إلى أن أراقب وسائل إعلام النظام لأعرف خبراً عن مدينتي التي تحتلّ من جديد. أيّ مفارقةٍ تلك التي تجبرك أن ترى منزلك المحرّر «محرّراً» بيد عدوّك من جديد. أخذوا بيتك يا أمي منذ أيام، دنسوا طهر ثورتك، وبات الطريق بعيداً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. سمعت أنهم أحرقوا شباباً كثر، أحرقوهم أحياء، واغتصبوا النساء، وأذلوا جيرانك. نسيت أن أخبرك أنني رأيت الكثيرين منهم في فيديو لشادي حلوة. شادي الذي كان يرقص كالنساء في شارع الشلال في حيّ العزيزية، ويضحك كالعاهرات وهو يتمايل بخصره على موسيقى الرقص الشرقيّ، ويتملّق المسؤولين ويتمسح بأحذيتهم، صار اليوم نمر الإعلام السوريّ، وصارت الناس تتابع أخباره وتنتظر حضوره!

أصبح له متابعون بالآلاف. أأضحك يا أمي... بعضهم كان يقبله، آخرون كانوا يلمسون وجهه، والكثير منهم كان يدعو له ولجيشه بالحياة.

أي ذلٍّ كان يعتمل في صدورهم، ما الذي كان يعتريهم، حين ضاقت السبل عليهم فصاروا يقبّلون قاتلهم ويستنجدون بجلادهم. أيّ عجزٍ ذلك الذي يمتزج معه الضحك بالدم. الفقراء وحدهم يعرفون هذه الثنائية عن الموت/الحياة، وأن الأمومة تعني اللارجوع بل المضيّ قدماً، فهم فعلاً «وقود الثورات وحجارتها».

النظام أخذ طريق الباب أيضاً يا أمي، وسد اللوز، المكان الذي كنت أمازحك لكثرة ما ذهبتِ إليه فأقول لك: «كل أصحاب المحلات يشيرون إليّ ويقولون هذا ابن أم محمد»، فتبتسمين وتنعتينني بالكاذب. وأخذ حيّ الشعار، أتذكرين حين كنت تأتين إلى صيدليتي وتجلسين لتريحي أقدامك المتعبة وتشكين لي، ثم تملأين «قنينة الماء الخضراء» وتحملين كيس الأدوية الممتلئ. كنت أقول لك: «الذي يصنع منك عظيماً يقتلك، وأنت قتلتك الأمومة يا حجة»، فتجيبين: «فداك يا قلبي».

وحدهنّ الأمهات بقين في المدينة يحملن وجعهنّ، يصلّين، ويحتضنّ أطفالهنّ تحت الأنقاض. على عجلٍ يجمعن بعض الثياب ويركضن هارباتٍ بمن تبقى إلى أماكن أقل موتاً. يجلسن على الأرصفة، ينتظرن رجوعنا.

هناك هدنةٌ يا أمي. يقولون إنهم سيقتلعونك، مرّةً أخرى، من مكانك الجديد الذي أجهل تفاصيله كي أصفه، ولكني أعرف أنك أهدرت الكثير من الماء في تنظيفه. أذكر أنك قلت لي يوماً إنك كنت تحملين الماء في خابيةٍ على رأسك ساعةً كاملةً لتسقي زهورك التي كانت رفيقتك دوماً في كل البيوت، ولكني لا أعرف إن كانت قدماك ستسعفانك هذه المرّة أو إن كان قد بقي ماءٌ في المدينة.

سمعت أنهم يرسلون رسائل على الهواتف المحمولة يطلبون منكم الاستسلام والعودة إلى حضن الوطن: «أيها المسلحون في أحياء شرق حلب: لا يوجد أمل بفك الحصار عنكم، جميع المجموعات المسلحة التي كانت تنوي فك الحصار عنكم من الخارج أصبحوا بين قتيل ومصاب، لا تكونوا أغبياء فكروا بأنفسكم وأهلكم، لن يدوم القتال طويلاً، والنصر قادم للجيش العربي السوري فكروا بسرعة لأن الوقت يمر وليس في صالحكم»، «إلى أهالي سكان أحياء شرق حلب المحترمين، لقد أصبحت أحياؤكم في أمان وتقوم مؤسسات الدولة بإعادة تأهيل المساكن ولذلك ندعوكم بالعودة إليها، لنعيد معاً ما خربه الإرهابيون من مدارس وروضات أطفال ومشافي لأجل تأمين مستقبل مشرق لأطفالنا».

هم يجهلون يا أمي أنك لا تعرفين القراءة والكتابة، وأنه لا حضن غيرك يدعى حضن الوطن. وأعرف أنك حين ستسمعين ذلك ستقولين لهم أعيدوا لنا أبناءنا الذين اعتقلتموهم أو قتلتموهم لنبني لهم مستقبلاً مشرقاً.

صرت إرهابيةً يا حجة!

وصار بشار الأسد يبحث عن مستقبلٍ مشرقٍ ليبني مدارس ومشافي وروضاتٍ لأطفالٍ حرمهم آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم وأهداهم براميل متفجرةً وعقداً نفسيةً لثأرٍ لن ينتهي ببقائه، ولكن «اللي استحوا ماتوا يا أمي».

أنا الآن خارج المكان، أعيش لاجئاً وأتركك وثورتي لقدركم وأكتفي بالمشي من أول البيت إلى آخره. أعيش على الدخان، وأتظاهر بالوجع، وأنت الباردة هناك. أنتظر صوتك الغائب على الواتس آب كطفلٍ صغير، لتقوّيني يا أمي على وجع الأيام القادمة.

* حيّ كانت تسكنه العاهرات في حلب.

 

مخيم حندرات