حين يغدو عدو الوطن صديقاً لضعفنا

REUTERS

لم نعثر على تبرير منطقي لما حدث يومها، حين رأينا الكثير من العراقيين يرحبون بدخول الجنود الأميركيين إلى بلادهم. كيف احتفلوا بسقوط بغداد، كيف صفعوا تمثال صدام حسين بالأحذية.

بكينا وقتها على احتلال بلد عربي، وربما حقدنا على أولئك الذين نعتناهم بالخيانة. استعرنا قصة معاوية مع ملك الروم وتحفزنا في داخلنا. ذهب الكثير من شبابنا إلى العراق وحاربوا على الجبهات واستشهدوا هناك، أما الذين عادوا فكانت الخيبة تملأ أفواههم، والأمن السوري الذي أسهم في إرسالهم بات يترصدهم في كل زاوية.

كما نعتنا العالم كله بالخيانة بعدما رأينا صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ودهشنا لانقسام الفلسطينيين أنفسهم بين مؤيد لحرب غزة ورافض لها، وأتعبنا موقف محمود عباس حين قال في القمة العربية إنهم مضطرون للتعاون الأمني مع «إسرائيل»، فحنقنا عليه وخوّناه.

جلسنا نترقب على شاشات التلفاز خطابات حسن نصر الله في حرب تموز، وبصقنا في وجوه من اتهموه بجرّ لبنان إلى حرب مدمرة.

أوَكلما أرادوا تصفية حساباتهم احتلوا الكويت من جديد، وضيقوا علينا ذاكرة طفولتنا، حبيباتنا الأوائل، وشوارعنا البكر القديمة، وأسنانا اللبنية، وخوفنا من الكلام، وعجزنا عن التعبير، حين يصير الوطن عدوّاً متمثلاً بشخوصه، وحين يغدو عدو الوطن صديقاً لضعفنا.

اليوم، ومع «الضربة الأميركية لسوريا»، تعود تلك الذاكرة إلى ذهني. وكأن الحياة تسعفني بتبرير منطقي على ما حدث، لأنقسم بين ثلاثة أشخاص:

أنا الحاقد الباحث عن تفسير لموت الأطفال والنساء والرجال من حلب حتى خان شيخون، مروراً بكل قرية ومدينة في بلادي، بعد أن غدا التقويم مليئاً بأعداد القتلى وذاكرة المجازر.

وأنا المستغرب من فرح من كانوا يوماً شركاء في الوطن من التدخل الروسي الإيراني وتلويحهم لتلك الطائرات القاتلة وشعورهم بالانتصار بعد كل ضربة توجهها لنا وتبريرهم لها حين ينعتونا بالإرهابيين ويصفون القتلة بالأصدقاء، في فصام عن الواقع وغياب للوطن.

وأنا المقهور من انتظار رجل كترامب ليدافع عن الإنسانية مختتماً حديثه بالدعاء لشعب أميركا بالحياة ومنتصراً لأطفال الرب كما دعاهم.

لست حزيناً لما حدث، ولست فرحاً أيضاً. هو اختلاط المشاعر يدفعني في كلتا الحالتين إلى الدفاع عن شيء أنكره وأجد فيه الخلاص، غير أني من أولئك المتشائمين الذين يخافون الجلوس على كرسي على المائدة الخاوية فأجدني أستعير قناعاً من الأقنعة الثلاثة لأكمل حياتي دون وجه واضح، بثلاث صفقات طليعية وأغنية «سبعة نيسان يا رفاق، ميلاد الحزب العملاق» والكثير الكثير من القيء.

سنوات مرت على التهديد الذي أطلقه أوباما يوم مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية. وقتها كنا في حيّ طريق الباب بحلب، مجموعة من الشباب الثائر. أطفأنا سعار مولدة الكهرباء التي كانت تنقل لنا عواجل الإعلام الحمراء. لم نناقش الأمر ولم نتجادل في رغبتنا واختلافنا. افترشنا فراغ البيت العربي الذي كنا نسكنه وأخذنا ننظر إلى السماء المليئة بالنجوم وقتها. نمنا ونحن نعدها غير آبهين بمكان سقوط تلك الصواريخ، لعل الموت بـ«صواريخ أميركية» كان أخف وطأة على أرواحنا، كانت حلب وقتها لنا.

أردت اليوم أن أستعير وجوههم. المنافي التي سكناها أهدتنا بيوتاً بلا أسطحة، وعلمتنا أن لا ننظر إلى السماء، ولكنها لم تستطع القضاء على إنسانيتنا وانتماءاتنا كما فعلت حين فرحوا بقتل أطفالنا في كل يوم، وحين استطاعوا أن يصدقوا كذبتهم ويبتعدوا عن الحقيقة بروايات هم من يصنعها وهم فقط من يصدقها. حين يشعرون أن كل طائرة، وإن كانت تقصف أحلامنا، هي طائرة لما يسمونه «الجيش العربي السوري»، وأن ثمنها جاء من دمهم وعرقهم، رغم معرفتهم أن دمنا وعرقنا كان شريكاً لا ينفصل في دفع الثمن لنحمي وطننا لا كذبة الحاكم ورجالاته، وليحصرونا في زاوية واحدة لنقبل بما نكره. في الوقت الذي يذكّرونا فيه -حين يريدون- بأننا شركاء في الوطن خائنون له، وبأن أطفالنا إرهابيون يجب أن يموتوا في كل وقت. من نحن بالنسبة إليهم تلك هي القضية التي تشغلهم دون الوقوف على سؤال من نوع آخر: ما الذي تركتموه لنا لنقف معاً في خندق واحد؟

لم تقصف أمريكا قلوبنا بل قصفت وجوههم. ولكنها، وهي تفعل ذلك، مرت على جباهنا دون أن ندري وألصقت طابعاً من التبعية، على الرفاق الذين غادرونا وهم يحمون ثورتهم ومبادئهم، على شركاء الألم من مدينتي في منافيهم وعجزهم، على أطفالنا، على قبر أبي، على ثورتنا التي لن تعود كما كانت.