بينما كان العالم يحبس أنفاسه على أوتار متابعة التغريبة الحلبية بكل فصولها المأسوية القاسية، منتظراً خروج قوافل الباصات وهي تقلّ المدنيين والمقاتلين المتبقين في القسم الشرقيّ من المدينة إلى جهاتٍ عدّة، قاطعةً طريقاً طويلاً خطراً جداً، بسبب احتمال هجوم أزلام النظام وشبّيحته والميليشيات الشيعية عليها، بكل ما يحملونه من حقدٍ طائفيٍّ أعمى، للانتقام من ركابها، كما حدث يوم الجمعة (16 كانون الثاني 2016) عندما أطلقت تلك الميليشيات النار على قافلة النازحين المكوّنة من 25 باصاً بعد عبورها حيّ الراموسة الحلبيّ، متجهة نحو ريف المدينة الغربيّ، مما أسفر عن مقتل وجرح العديد من المهجّرين؛ ليفرضوا شروطاً إيرانيةً جديدةً تتضمّن إخراج مئات الأشخاص من بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيّتين بريف إدلب؛ في خضمّ كل ذلك هاجمت مجموعةٌ من المتشدّدين الإسلاميين قافلة الباصات الفارغة المتوجهة نحو هاتين البلدتين، وقامت بالاعتداء على سائقيها، وإضرام النار في بعضها، بالقرب من النقطة صفر -الحاجز الأخير لجبهة فتح الشام عند مدخل كفريا- ما أدى إلى عرقلة خروج المحاصرين من حلب لبعض الوقت، وأدخل الأمور في عنق الزجاجة، لا سيما بعد عرض فيديو يصوّر المهاجمين على خلفية الباصات المحروقة!

للوهلة الأولى بدا الذين ظهروا في التسجيل قريبين من زيّ المنتمين إلى داعش أو النصرة أو غيرها من الجماعات الجهادية الموجودة على الأرض السورية؛ لكن ما إن تسمع خطبة متزعمهم -عبد الرؤوف رحمة- وتشاهد ردة فعل البقية بالتكبير وترديد شعار «قائدنا للأبد سيدنا محمد» الذي لا تردده تلك الجماعات؛ حتى تتأكد بأنهم مجموعةٌ من الشباب الإدلبيّ الغاضب، ربما انتمى بعضهم إلى تنظيماتٍ جهاديةٍ في السابق، أرادوا أن يفعلوا شيئاً يلفت الانتباه، فقاموا بهذا العمل المدان والمرفوض تماماً، لا سيما في مثل هذه الظروف القاهرة.

يصرخ عبد الرؤوف بأعلى صوته أن الهدف هو رد كرامة أهل حلب التي أهينت من قبل المليشيات الشيعية، مستنفراً الهمم من خلال استبدال تعبير «أمة الإسلام» بـ«العرب» في البيت الشعريّ: «تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب» لإبراهيم اليازجي؛ ملغياً توجهه القوميّ، في وقتٍ انقضت فيه موضة القومية العربية وذهبت أدراج الريح مع أفعال النظام الأسديّ البعثيّ الدكتاتوريّ الشنيعة!

من هو عبد الرؤوف رحمة؟

من مواليد إدلب، عمره 45 عاماً، وينحدر من أسرةٍ معروفةٍ بالتزامها الدينيّ. درس في كلية الآداب بجامعة حلب، قسم اللغة العربية؛ لكنه لم يستطع إكمال دراسته بسبب الفقر الشديد، ما اضطرّه إلى تركها والسفر إلى قبرص، حيث عمل قرابة عشر سنواتٍ بـ«صبّ البيتون»، جمع خلالها مبلغاً من المال عاد به إلى سورية وفتح محلاً لبيع العطور. أحب قراءة الكتب الدينية والتاريخية، وأدمن لعب ورق الشدّة. شارك في المظاهرات السلمية، ولكن مع خمودها وسيطرة جيش الأسد على إدلب لزم بيته وعمله. بعد دخول «جيش الفتح» إلى المدينة حاول أن يصبح إماماً وداعية، مستفيداً من لغته العربية ومعارفه الدينية، لكنه لم يستطع بسبب احتكار هذه الأمور من قبل شرعيّي جبهة النصرة!

كان رحمة قد انتسب إلى النصرة بعض الوقت، ثم إلى حركة أحرار الشام، وتقرّب من جند الأقصى، وسرعان ما ابتعد عنهم، مقرّراً السفر إلى تركيا بحثاً عن عمل؛ لكن ظهوره وهو يحرق الباصات، مع عددٍ من الرجال الغاضبين، فاجأ الجميع!

وبناءً على ما سبق يبدو أن هذا الفعل كان عملاً انتقامياً عشوائياً، غير مدفوعٍ -على الأغلب- من أيّ جهةٍ عسكرية. وكل ما أشيع عن بيان أبو البهاء الأصفري -أميرٌ في جند الأقصى- الذي تبنى العملية، هو مجرد محاولةٍ يائسةٍ للتأكيد على أنه موجودٌ مع جنده على الساحة لا أكثر. وقد يكون البيان مزوّراً، لأنه لا أحد اليوم في إدلب يستطيع التصريح علناً بالانتماء إلى «الجند»، بسبب الخوف من اعتقال «أحرار الشام» له. وحتى أبو البهاء لا يظهر للناس منذ مدّةٍ طويلة، ولا أحد يعرف مكانه، لأنه موجودٌ في حماية «الجبهة»؛ ولا يتحرّك أو يصرّح إلا بأمرها.

بعد الزوبعة التي أحدثتها عملية حرق الباصات، تمّت إعادة سائقيها -بينهم جثتان وجريحان- مساء الثلاثاء (20 كانون الثاني)؛ واستمرّ خروج المدنيين والمقاتلين من حلب، حتى خرجت الدفعة الأخيرة مساء الخميس (22 كانون الثاني)؛ ليسدل الستار على قضيةٍ شغلت الرأي العام المحليّ والعالميّ ردحاً من الزمن، وحرقت قلوبنا جميعاً!