جيش خالد بن الوليد أو داعش الجنوب
عن سيرتها وصراعها من أجل البقاء

تراجعت حدّة المواجهات في ريف درعا الغربيّ بين فصائل من المعارضة المسلحة من طرفٍ وفصائل تابعةٍ لتنظيم داعش، اندمجت تحت اسم جيش خالد بن الوليد، من طرفٍ آخر، منذ سيطرة المعارضة على بلدات تسيل وسحم الجولان وعدوان في نيسان الماضي.

وثبتت، منذ ذلك الوقت، خارطة السيطرة بين الطرفين على انكفاء فصائل داعش إلى 11 قريةً من قرى وادي اليرموك، تمتد على مساحة 100 كم2 تقريباً، في بقعةٍ تحاذي الأردن والجولان السوريّ المحتلّ. يثير الموقع الذي تمترست فيه داعش مخاوف إسرائيل والمملكة الأردنية التي ترعى، بالشراكة مع دولٍ غربيةٍ وعربية، ما يعرف بـ«غرفة موك الجنوب»، المسؤولة عن برنامج دعم وإمداد فصائل الجبهة الجنوبية من الجيش الحرّ. وتمكّن غرفة الموك، فضلاً عن الجوار الجغرافيّ بوصفه متنفساً خلفياً لفصائل الجبهة الجنوبية، الأردن من تحقيق تأثيرٍ واسعٍ على هذه الفصائل، بما يضبط أداءها وعملياتها العسكرية وفق البرامج الغربية لـ«محاربة الإرهاب» التي يتبناها الأردن كواحدةٍ من سياساته إزاء الصراع في سورية. وتكشف تصريحات رئيس الأركان الأردنيّ الأخيرة طبيعة الدور الذي تلعبه حكومته في ذلك الصراع، من جهة مهادنتها نظام الأسد وتركيزها على التخلص من تنظيم داعش ممثلاً بجيش خالد بن الوليد. قدمت غرفة الموك للفصائل التي تحارب جيش خالد إمداداتٍ سخيةً من الذخيرة والسلاح، وزوّدتها، خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بمعدّاتٍ هندسيةٍ ثقيلةٍ لتحصين دفاعاتها على خطوط الجبهات، إضافةً إلى تجهيزاتٍ إلكترونيةٍ وآلات كشفٍ عن المتفجرات. وقبل شهرين تقريباً كان من المخطط أن تهاجم قوةٌ سوريةٌ درّبتها الأردن، انطلاقاً من أراضيها، مواقع جيش خالد شمالاً في الأراضي السورية، لدفعه بعيداً عن تهديد الحدود، بتغطيةٍ ناريةٍ ثقيلةٍ من الجانب الأردنيّ، لكن الخشية من معدل الخسائر البشرية المرتفع في صفوف المهاجمين حالت دون وقوع هذا الهجوم، وفق ما أشيع. وحتى الآن لم توجه طائرات التحالف الدوليّ أيّ ضرباتٍ على مواقع جيش خالد في سياق حربها ضد تنظيم داعش، ويأتي ذلك ضمن تفاهماتٍ خاصّةٍ أميركيةٍ-روسيةٍ تحضر فيها الأردن وإسرائيل، التي يقتصر دورها العمليّ على الردّ -بين وقتٍ وآخر- على مصادر إطلاق النار نحوها من معقل داعش في حوض اليرموك.

من جانبها، أحكمت فصائل المعارضة المسلحة حصارها على جيش خالد في تلك البقعة من جهتي الشرق والشمال. وتقلصت بذلك الحصار، إلى حدٍّ كبير، عمليات تهريب الذخيرة والسلاح، وأعيقت حركة التسلل لمبايعين جدد –على قلتهم- نحو القرى الواقعة تحت سيطرة جيش خالد. وتبدو الفصائل اليوم مكتفيةً بما حققته ضدّ هذا الجيش بعد أن حشرته في مكانه الحاليّ، وطهرت معظم المحافظة من المجموعات المشتبه بتابعيتها له، ومن كثيرٍ من خلاياه الأمنية النشطة. وتدرك هذه الفصائل أن الإجهاز النهائيّ على جيش خالد يتطلب قدراتٍ أعلى مما تتمتع به اليوم، خاصّةً بعد انسحاب جبهة النصرة أو فتح الشام من الحرب ضده، بانتقال الجزء الأكثر تشدداً من مقاتليها ضد داعش من درعا إلى محافظة إدلب، في صفقةٍ مع قوّات الأسد في الشهر الأخير من العام 2015، بقيادة الشرعيّ العام السابق للنصرة أبو ماريا القحطاني. ويعزّز موقف النصرة بالانسحاب تصنيفها على لوائح الإرهاب الدولية، ما يجعلها الهدف التالي بعد الخلاص من داعش في محافظة درعا.

يحاول جيش خالد كسر حالة الجمود والانكفاء التي يمرّ بها، اعتماداً على أساليب التنظيم الأم –داعش- في ترويع الخصوم بعمليات الاغتيال والتفجير وتعميق حالة الفوضى والانقسام والتناحر في صفوفهم، مستفيداً من مهاراته في الحرب النفسية واستثمار الأخطاء ومظاهر الفساد وشبهات التواطؤ والتبعية التي تحوم حول قادةٍ في الجبهة الجنوبية لأجهزة مخابراتٍ عربيةٍ وغربية. وتخدم محاولات النظام الحثيثة في درعا، لعقد هدنٍ ومصالحاتٍ وتسويات وضعٍ واسعة النطاق مع مجموعاتٍ عسكريةٍ محليةٍ مناهضةٍ له، دعاية داعش. وتخدمها أيضاً المواقف الدولية المخجلة تجاه معاناة الشعب السوريّ، وتخاذلها الفاضح في وضع حدٍّ لجرائم نظام الأسد، وصمتها عن التدخل الإيرانيّ بوجهه الطائفيّ السافر إلى جانب النظام، ما يعمق مشاعر القهر واليأس والغضب، ويرسخ النظرة العدمية التي تقود في بعض مساراتها إلى تبني أفكار داعش ونظرتها.

ورغم انكماش قدرته على تجنيد المزيد من المبايعين في المنطقة الواسعة من درعا بعيداً عن معقله في حوض اليرموك، وعجز المجموع السكانيّ في القرى الخاضعة له -50 ألف نسمة تقريباً- عن تحقيق التغذية البشرية المطلوبة لإحداث فارق؛ يستطيع جيش خالد الصمود بالعدد الحالي لمقاتليه، وهو 700 مقاتلٍ تقريباً، منهم نحو 100 من جنسياتٍ أردنيةٍ وفلسطينيةٍ وخليجية، وبعتادٍ يتألف من عشرات المدرعات ومدافع ثقيلةٍ من عياراتٍ مختلفةٍ ومدافع هاون وصواريخ مضادةٍ للدروع ورشاشاتٍ متنوعةٍ وعشرات السيارات رباعية الدفع.

وتتمتع داعش درعا ببنيةٍ متماسكة، اكتمل نموّها حين اجتمع فصيلان رئيسيان بايعا التنظيم، هما لواء شهداء اليرموك في معقله الأساسيّ بوادي نهر اليرموك، وحركة المثنى الإسلامية المندحرة من مناطق نفوذها وسط درعا إلى الوادي في الأشهر الأولى من العام الماضي، فضلاً عن فلول ثلاث مجموعاتٍ متشدّدةٍ أخرى هي كتيبة حمزة أسد الله المطرودة من بلدة طفس، وسرايا الأقصى المطرودة من بلدة إنخل، وجيش الجهاد المندحر عن معقله في القحطانية بريف القنيطرة. لتندمج كل هذه المجموعات الخمس، في أيار الماضي، في جسمٍ واحدٍ أطلقت عليه اسم جيش خالد بن الوليد تيمناً بقائد جيش المسلمين ضد الروم في معركة اليرموك عام 15 هجري.

لم تشهد محافظة درعا نشوء حركاتٍ سلفيةٍ جهاديةٍ صغرى أو متوسطة (انظر إصدار مجلة «عين المدينة» الخاصّ بعنوان «طيف القاعدة») كما حدث في وسط وشمال سورية. ويرجع ذلك إلى عوامل عدّةٍ منها البعد الجغرافيّ عن حركة طلاب الجهاد العرب، وغياب درعا عن مشهد انتفاضة الإخوان المسلمين ضد حافظ الأسد في ثمانينات القرن الماضي، إذ شكلت دمشق القريبة ملعباً اكتفى به ناشطو الإخوان المتحدرين من درعا، مما جنبها بطش حافظ الأسد ووحشيته التي ظهرت في مدن الوسط والشمال، تلك الوحشية التي أسهمت في خلق جيلٍ حركيٍّ ثانٍ أشد عنفاً من آبائه، وجد في نموذج القاعدة، ثم في تحولاتها قبل الثورة وبعدها، التعبير الأمثل عن نفسه. ولم يلق معتقلو صيدنايا من أبناء محافظة درعا، وقت إطلاق سراحهم أول الثورة، المناخ الملائم في قرى وبلدات المحافظة لإطلاق مشاريعهم الجهادية الخاصة. وخلافاً لكل القصص الموضعية لولادة داعش في المحافظات الشمالية والشرقية من رحم جبهة النصرة، أو بانقسامها إثر إعلان قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في نيسان 2014؛ ولدت داعش درعا بطريقةٍ أخرى ومن رحم الجيش الحرّ، مع لواء شهداء اليرموك الذي تأسّس ككتيبةٍ بهذا الاسم في أوائل 2012، وتحول إلى لواءٍ في النصف الثاني من العام ذاته. أبلى «شهداء اليرموك» بلاءً حسناً في قتال قوات الأسد. وظل، خلال العامين الأولين من عمره، متمسكاً بعلم الثورة ومتبنياً شعاراتها، بالرغم من الصبغة السلفية لمؤسّسه أبو علي البريدي التي انسحبت، بمرور الوقت، على غالب مقاتلي اللواء الذي تحول، بشكلٍ متدرّج، إلى جماعةٍ سلفيةٍ جهاديةٍ على نموذج تنظيم داعش، يرفع علمه الخاصّ المشابه لعلم التنظيم في الأشهر الأخيرة من عام 2014، ليشكل، منذ ذلك الوقت، نواة داعش المتينة في محافظة درعا، ويخوض مجابهاتٍ عنيفةً صمد في معظمها ضد جبهة النصرة وأحرار الشام وبعض فصائل الجيش الحرّ. أما حركة المثنى الإسلامية، التي بدأت ككتيبةٍ إسلامية الصبغة عام 2012، فلم تبدِ أيّ علامات تشددٍ مبكرةٍ بالرغم من إحجامها عن رفع علم الثورة وتجنبها تبني شعاراتها، مع أنها كانت تتلقى الدعم من بعض روابط وتجمعات أبناء المحافظة المغتربين في دول الخليج العربيّ، قبل أن يوقفوه مع الميل المتنامي لقادة الحركة نحو التطرّف، وقبل أن تتهم بعمليات خطفٍ واغتيالٍ كان منها اختطاف رئيس مجلس محافظة درعا آنذاك، الراحل يعقوب العمار، في الشهر الأول من العام الفائت، لتتأكد بذلك الشكوك في أنها بذرةٌ ثانيةٌ لتنظيم داعش، ثم تندلع المعارك ضدها فتتقهقر إلى ملاذٍ آمنٍ في معقل حليفها.

تحرم السمعة السيئة لتنظيم داعش في مناطق سيطرته الرئيسية شرقيّ البلاد، ثم ممارسات فرعه في درعا، هذا الفرع من أيّ تعاطفٍ شعبيٍّ في المحافظة، رغم حالة التذمر العامة من فوضى الجيش الحرّ، ما يسهم في تكريس حالة العزلة التي يعيشها الدواعش في منطقةٍ معزولةٍ وطرفيةٍ مثل حوض اليرموك. وعلى أصداء الهزائم التي تمنى بها داعش في سورية والعراق من غير المتوقع أن تحظى بأيّ إعجابٍ بطوليٍّ يمكن توظيفه في الصراع الذي سيؤول، في نهاية المطاف، إلى القضاء على جيش خالد وسحقه.