جرابلس بين تحريرين، من «داعش» ومن الأسد

خاص عين المدينة

تواجه مدينة جرابلس اليوم، بعد تحريرها من تنظيم «داعش»، التحديات ذاتها التي واجهتها بعد تحريرها من نظام الأسد قبل أربع سنوات، وقد أضيفت إليها التركة الثقيلة التي خلفتها «داعش».

يبلغ عدد سكان جرابلس وريفها نحو (35) ألف نسمة. ويتألف نسيجها الاجتماعيّ من عشائر طي وجيس والدمالخة العربية، ومن عائلاتٍ تركمانية، ثم كرديةٍ بدرجةٍ أقل. وفي حقبة حكمه عبث نظام الأسد بهذا النسيج مستعملاً وسائل عدّة، كان أوضحها إشاعة روح التنافس بين أفرادٍ بعثيين من مختلف المكوّنات على مناصب حزبيةٍ وحكوميةٍ محدّدةٍ سلفاً وفق محاصصةٍ غير معلنةٍ لتوزيع هذه المناصب. وقد أراد بهذا التخصيص استرضاء المكوّنات ومنحها الإحساس بالمشاركة وبالانتماء اليه، وأراد به أيضاً بث الفرقة والتناحر المنضبط تحت سقف سطوته. وكما في أيّ مجتمعٍ سوريٍّ آخر أضعف النظام مراكز القوى التقليدية أو أفسدها، لضمان تابعية الجميع وولائهم له كقوّةٍ وحيدةٍ ومسيطرة.

اندلعت الثورة وسجّلت مكونات مجتمع جرابلس مشاركةً متفاوتةً فيها. ثم جاء الخلاص من النظام ليخضع المجتمع كله لتجربةٍ غريبةٍ عليه، وهي أن يكون حرّاً وحاكماً لنفسه، ومرتبطاً -في الوقت ذاته- بتحولات صراعٍ كبيرٍ متعدد الأقطاب. ومثله مثل معظم المجتمعات السورية خضع مجتمع جرابلس لحمولات ماضيه الخاصّ، فافتقد إلى مرجعياتٍ راسخةٍ تقدر على تحقيق الحدّ الأدنى من الوحدة في وجه الأزمات، وظلت العصبيات العشائرية والعرقية والعائلية، بالإضافة إلى الطيش والمطامع والارتجال، تفعل أفعالها المعوقة لأيّ خطوةٍ قد تخطوها بعض القوى الثورية الواعية نحو إنتاج مؤسّساتٍ تتمكن من أداء مهماتها كما ينبغي. وأدى التعامل الرخو والتساهل مع مظاهر الفوضى، وربما تواطؤ البعض مع المجرمين بأنواعهم، بعدّها قدراً لا فكاك منه وقت الأزمات؛ إلى كوارث صعُبت النجاة منها في ما بعد على الجميع. يصعب التنبؤ الدقيق بمآلات تلك التجربة في حال لم تظهر «داعش» على مسرح الأحداث، لكنها، وعلى أسوأ التقديرات، كانت ستكون أرحم من احتلال «داعش» أو عودة سيطرة النظام.

بتحرير مدينة جرابلس اليوم أتيحت الفرصة مرّةً أخرى لقوى الثورة لأن تطلق مشروعها من جديد، في بناء مؤسّساتٍ تفرض الأمن والاستقرار وتوفر خدماتٍ ورعايةً صحيةً وتعليماً للسكان. ويبدو التكهن باحتمالات نجاحها في ذلك مرهوناً بدرجة استخلاصها العبر من دروس ماضيها القريب، وبمقدار عزمها على التغلب على عوامل ضعفها السابقة. وهي ستخفق حتماً في النهوض بواجبها كسلطةٍ بديلةٍ وضروريةٍ في هذه الأوقات إن لم تتوحد في أطرٍ وهياكل متماسكة. وستؤثر الجدية التي تبديها الدول الصديقة للشعب السوريّ إزاء هذه السلطة في أدائها بالتأكيد، إذ يترتب على هذه الدول أن تساعد الإدارة الجديدة في تأمين موارد تغطي النفقات العامة وتسهم في تحسين الواقع الاقتصاديّ المنهار من خلال مشاريع تنمويةٍ صغيرةٍ ومتوسطةٍ تتيح وظائف لآلاف العاطلين عن العمل، كما تشجع آلافاً آخرين على العودة الى ديارهم. ولأن انصهار فصائل الجيش الحرّ وكتائبه المختلفة في جيشٍ موحدٍ ومنضبطٍ شرطٌ رئيسيٌّ لحماية البقعة المحرّرة الآخذة بالاتساع، يجب على تلك الدول، وخاصةً تركيا -بحكم موقعها الجغرافيّ ودورها المباشر في تحرير جرابلس- أن تساعد في هذا الشأن.

ألحقت «داعش» ضرراً عميقاً بمجتمع جرابلس، فجعلت من كلّ فردٍ ممن تبقى تحت سلطتها هناك ضحيةً أو مجرماً أو صامتاً عن جريمة. وحسب تقديراتٍ بالحدود الدنيا يفوق عدد «الدواعش» المتورّطين بجرائم مثبتةٍ من أبناء المدينة (200) شخص، فرّوا جميعاً مع قوافل «داعش» المطرودة إلى مدينة الباب. ويتوزع المجرمون في منابتهم على كلّ المكوّنات الاجتماعية، مثلما يتوزع الضحايا. تعدّ هذه القضية واحدةً من أهمّ التحديات الراهنة، مما يجعل من تأسيس محكمةٍ خاصةٍ تنظر في الجرائم المرتبطة بـ«داعش» خطوةً ضرورية، بالتعاون مع المجتمع المحليّ، لاسترداد ما يمكن استرداده من حقوق، ولمحاسبة كل من اقترف جريمةً أو شارك فيها أو تواطأ، لا من أجل العدل فحسب، إنما لفرض هيبةٍ وشرعيةٍ وحضورٍ طالما افتقدتها بنى الثورة الناشئة أمام المجتمعات الحاضنة لها.