جامع جامع... مات

معاوية حمّــاد

يخالف جامع جامع الصورة النمطيّة لرجل المخابرات في نظام الأسد، إذ لم يكن متعجرفاً وسطحياً وقليل تمييزٍ بين الناس، ولم يشكل النهب والإثراء همّه الأول. فله اهتمامات أَولى تجعل منه بحقّ شخصيةً أمنيّةً من طرازٍ مميّز، خدمت النظام بإخلاصٍ منقطع النظير. وليس النظام بالنسبة إليه شخص حافظ الأسد وابنه بشار فقط، بل هو الطائفة ذاتها، وخلاصها الذي تحقق في ماضٍ قريب كان جامع شاهداً عليه. والنظام أيضاً، في جانب وجدانيٍّ لجامع، هو "زاما"، القرية الجبلية الصغيرة التي ولد فيها سنة 1956.
أدرك جامع في وقتٍ مبكّرٍ أن "الضيعة ـ الطائفة ـ النظام" مفاهيم أكبر من أسمائها لأنها وجود، وانتقاص واحدٍ منها خطرٌ كبيرٌ على هذا الوجود. وانعكس هذا الإدراك بالولاء المطلق والدائم لقدّيس الطائفة الأول ومخلّصها من سنوات التيه، حافظ الأسد.

 

قليلٌ من السيرة

كم كانت جميلة سنة 1974 بالنسبة لجامع، عندما دخل الكليّة الحربية؟ طموحٌ شرعيٌّ لشابٍّ مجدٍّ بالصعود، وهو شيءٌ ممكنٌ جداً في ظلّ حافظ الأسد لأي علويٍّ مؤهل، بشرط عدم ارتكاب الحماقات. ولم يفعل جامع إلا هذا، وزاد فوقه رغبةً لم تتحقق بالتفوق على أقرانه في اختصاص مدفعية الميدان، ولكن هذا التلكؤ الصغير لم يؤثر على ثقة الضابط بنفسه أو التزامه بحياته العسكرية، وحتى انتقاله إلى المخابرات. أيام مجدٍ بلا شك للضابط الشاب الذي سمى ابنه الأول "أمجد"، في استشرافٍ لمستقبلٍ مشرق. فأنجح الرجال في وجدان الطائفة العلوية هم الضباط، وصفوة الضباط هم ضباط المخابرات. وانتقل النقيب جامع من الفوج 127 مدفعية في رنكوس إلى جهاز الأمن والاستطلاع بلبنان، برعايةٍ وتزكيةٍ من غازي كنعان، الضابط الأشهر في هذا الجهاز.
ومن وظيفته الجديدة في قيادة مفرزة "دارة ـ عالية"، إلى الضاحية الجنوبية، إلى قيادة مخابرات بيروت في البوريفاج؛ صعد نجم جامع وزادت خبرته وترقّت رتبه، حتى اغتيــــال رفيــــــق الحــــــريري وطـــــــرد الجــيـــــش الســـــوري من لبنان. ولم يلبــــــث جامــــع سنواتٍ قليلة حتى أرسل إلى دير الزور، تلك المحافظة النائية والمهمّة في آن واحد.

 

سوء  الختام

كانت سنة 2008، سنةً غريبةً للديريّين، من زاوية سلوك رئيس فرع الأمن العسكري الجديد العميد جامع، القاتل والسفاح والمتوحش، كما تقول جماعة من الناس، العادل والقوي والشريف والقادر وحده على مكافحة الفساد، كما تقول جماعة أخرى.
والواقع أن الرجل استطاع، وخلال أشهرٍ قليلةٍ، أن يكون الحاكم الأول في دير الزور والمنطقة الشرقية. ولكن هذا شيءٌ سهلٌ بالنسبة لأيّ رئيس فرع مخابراتٍ له شأنٌ في إدارة شعبته بدمشق، فعليه فقط أن يسيّر الدوريات بسياراتٍ مكشوفةٍ تحمل رشاشات PKC، وعليه أن يستثمر تقارير المخبرين، المزروعين في كل مكانٍ من مؤسسات الدولة، باعتقالاتٍ وتحقيقاتٍ مع أيٍّ من الموظفين، من دائرة التنظيفات في البلدية إلى قصر المحافظ ذاته، وعليه أن لا يكون تافهاً ويقبل بالرشاوي الصغيرة ليتجاسر على بابه كل من هبّ ودبّ من سماسرة، وعليه كذلك أن يكون حاضراً وقريبا قرباً مباشراً من أي إشكالٍ في ولايته، وأن يفتح بابه أيضاً لشكاوى المظلومين من صغار رعاياه، في دعاوى لا يكلف فضّها شيئاً سوى التلويح من بعيدٍ باسمه الرهيب، ليتحول المشتكي بذلك إلى داعيةٍ يسعى في الأرض يروّج لعدالة جامع، وتتراكم الأخبار والشائعات عنه إلى حدّ الخرافة.
أصبح جامع أسطورةً تثقل كاهل الناس، ولا يمكن التخفّف منها إلا بتصديق ما لا يمكن تصديقه في سوريّة الأسد؛ أن يكون ضابط الأمن رجلاً صالحاً! ولكن من يعذّب البشر في أقبية البرد والظلام والخوف لا يمكن أن يكون بشرياً مثلهم. فهذا الوحش، المتزيّن باللطف والكياسة والتفهم، هو في الجوهر فجٌّ وغليظٌ وسيء المعشر، مثل أيّ وحشٍ آخر.
ومع اندلاع الثورة تحوّل جامع الأسطورة إلى جامع العدوّ المباشر، ليهتف الناس في المظاهرات طلباً برأسه، وليبذل من طرفه كل جهدٍ ممكن. فعقائده حول النظام والطائفة والإخلاص لهما لم تتزحزح، بل تُرجمت بأشنع الأعمال وأكثرها قسوةً ووحشيّةً بحقّ المتظاهرين، وترجمت أيضاً بعملٍ متواصلٍ لثلاث سنواتٍ تقريباً، لم ينقطع بإجازةٍ قصيرةٍ لزيارة أسرته في مساكن القطيفة العسكرية بريف دمشق.
ونجح جامع، بدهائه ومعرفته العميقة بالسكان، في أن يحيّد البعض ويجنّد البعض الآخر. وكان مصدر دفعٍ معنويٍّ لجنوده من عسكر ومتطوعي الأمن والشبّيحة. فبجسارته تمكّن جامع من الصمود، إلا أن هذه الجسارة ذاتها قادته إلى حتفه، حين أراد أن يرفع من معنويات جنوده المتقهقرين في معارك الرشدية لتتلقاه المنية هناك، بنيران الثوار أو بشظايا قذائفهم لا فرق، فحرب دير الزور مع قوات الأسد بعد جامع جامع لن تشبه ما قبلها.