تاريخٌ من رماد: أرشيف دير الزور الثوريّ في مهبّ الخوف

في وقتٍ أصبح فيه ما جرى خلال السنوات الفائتة من الماضي، وفي وضعٍ صار فيه الإعلاميون المحليون يبحثون عن طريقةٍ يستعملون بها أرشيفهم في التأريخ للثورة وظروفها وتطور مساراتها، ومن واقع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على دير الزور؛ يبدو الأرشيف مادةً عزيزة المنال يحجبها الوضع الراهن والشتات ومحاولات البعض إلغاء جزءٍ مهمٍّ من التاريخ يشكّل تهديداً لمستقبلهم.

يصف أحد إعلاميّي دير الزور ما جرى لأرشيفه بأنه عملٌ ممنهج، إذ يروي كيف اقتُحم منزله في أورفا التركية وسُرقت منه هارداتٌ وفلاشاتٌ يحتفظ عليها ببياناتٍ وصورٍ وفيديوهاتٍ للحظاتٍ يخجل أو يخاف منها بعض الفاعلين الآن. ويتهم الإعلاميّ عناصر فاسدةً من الجيش الحرّ في السابق، يمسّهم الأرشيف شخصياً أو يمسّ معارفهم وحلفاءهم. ورغم أنه من غير الممكن معرفة مدى أهمية هذا المحتوى الآن، وإذا كان يمسّ الحياة الشخصية للفاعلين أو المواقف العامة لهم؛ إلا أن تلاحم المسارين العامّ والخاصّ في نظر الأهالي قد يدفع الكثيرين إلى التغطية على تاريخهم في ظلّ التجاذبات الحادّة وتطور الأحداث السريع، خاصّةً بعد اتساع التجربة في الشقين العسكريّ والمدنيّ. كما أن أسباباً أخرى تقف في وجه تأريخ ما جرى في السنوات الماضية، كاحتكار البعض المعلومات التي يمتلكها وعدم إطلاعٍ أحدٍ عليها، أو محاولة البعض الآخر تجميل صورة دير الزور بشكلٍ عامٍّ أو صورة مدينته أو عشيرته أو غير ذلك.

ولكن عملية القضاء على الأرشيف بدأت في وقتٍ سابق، منذ عام 2013. فقد تنبهت بعض الكتائب إلى خطورة تصوير عمليات تصفيةٍ قامت بها على عجل، أو سطوٍ على ممتلكاتٍ خاصّةٍ وعامة، فراحت، عن طريق العلاقات أو الضغط والتهديد، تجهز على فيديوهاتٍ وصورٍ تسجل تلك الممارسات. لكن ذلك لم يؤثر على الكمّ الكبير الذي راح يتراكم يوماً بعد يومٍ دون أن يجد شكلاً يظهر فيه إلى العلن.

ولم يقتصر الأرشيف على عمل الإعلاميين والناشطين، بل شمل ما كانت تحصل عليه الكتائب من ملفاتٍ وتقارير عند سيطرتها على أفرع النظام الأمنية. وقد أتلف الكثير من هذا الأرشيف في وقته لأسبابٍ مجهولة، لكن البعض يرى أن هذا الإتلاف متعمد، لما في هذه الوثائق من معلوماتٍ تمسّ شخصياتٍ بارزةٍ ومؤثرةٍ منخرطةٍ وقتها في صفوف الثوار، يثبت الأرشيف ارتباطها بالنظام بشكلٍ أو بآخر.

على أن بعض إعلاميّي الفصائل احتفظ بجزءٍ من ذلك الأرشيف حتى سيطرة تنظيم الدولة، عندما راح يضيّق على التوثيق تدريجياً ويحصر التصوير بعناصره، بعد أن منع من رخّص لهم بذلك في وقتٍ سابق. في تلك الأثناء أحرق بعض الإعلاميين أرشيفه بسبب الخوف، ويقول أحدهم: "صراحة ندمت. حرقت شوالين أوراق من فرع الأمن السياسي والعسكري بالميادين، مع شغلات ثانية؛ بس ما بي حدا رضي يخلي شي عنده". ولم يكن هناك متسعٌ من الوقت للتفكير في تهريب تلك المادة الضخمة أو حفظها في مكانٍ آمن. وعلى الرغم من أن البعض لجأ إلى دفن أرشيفه في الأرض، لكنه اضطرّ في وقتٍ لاحقٍ إلى استخراجه وإتلافه تحت ضغط الخوف من البوح بمكانه في حال الاعتقال. إذ يقول أحد الناشطين، وقد اعتقله أمنيو التنظيم منذ أشهر، إنه لم يكن يتوقع الممارسات التي استعملها هؤلاء لانتزاع اعترافات الإعلاميين، وتركيزهم أثناء التحقيق على المواد المصوّرة التي يتوقعون وجودها لديهم.

ولم يقتصر مصدر الخوف على التنظيم، بل كذلك النظام الذي نكل بالبعض بسبب نشاط أقاربهم في المناطق الخارجة عن سيطرته، ما دفع إلى إتلاف جزءٍ مما وثقته الكاميرات بعد إخفائه لمدّةٍ طويلة. كما أن المرور بالحواجز العسكرية اضطرّ الكثيرين إلى مسح أرشيفهم العامّ والخاصّ، وفي ذلك يتساوى الأهالي والناشطون والإعلاميون، كما يتساوون جميعهم بالغصّة على ضياع ذلك الجزء المهم الذي أرّخ لمدينتهم في أهمّ الأحداث التي مرّت بها أو أرّخ لهم أثناء عيشهم تلك الأوقات.

لقد دفع ضياع هذا الجزء من التاريخ (المصوّر خاصّةً) الكثير من الإعلاميين إلى مراجعة طرقهم في الحفظ والتوثيق، لكن ذلك لم يحل دون التحسر على ما خسروه. فهل تدفع التجربة والخسارة والخروج من المحلية إلى تبني أساليب أكثر إقناعاً وانفتاحاً في تقديم ما تبقى من تاريخهم، خاصّة أنهم من مدينةٍ يشكو أبناؤها أصلاً من ضياع تاريخها؟ وهل يحول دون احتكار البعض للمعلومات؟