بعد ازدهار طويل.. انهيار تربية الجاموس في سهل الغاب

شكّل سهل الغاب على مدى عقود من الزمن بيئة مناسبة لتربية حيوان الجاموس، لكن العوامل التي مرت على سهل الغاب، ابتداءً بتجفيفه مطلع ستينات القرن الماضي وانتهاء بالحروب التي دارت في المنطقة خلال السنوات الماضية، أدت لتناقص أعداده بشكل كبير، حتى غدت تربيته اليوم محصورة بأشخاص معدودين في سهل الغاب.

يعود تاريخ الجاموس في المنطقة لأكثر من 800 عام، وساهمت المستنقعات التي كانت منتشرة هناك في تأمين أرض خصبة لتكاثره، وهو من الحيوانات الأليفة جداً، والتي تسهل رعايتها على خلاف مظهره الذي يوحي بالشراسة. وكان بإمكان أي عابر للمنطقة أن يرى من سفوح جبال اللاذقية سهل الغاب ممتداً بخضرته تجوبه قطعان الجواميس التي ترعى تلك السهول بمفردها دون الحاجة إلى راع يقودها، فقد اعتادت تلك القطعان أن تخرج من الحظائر وحدها في الصباح لتنتشر قرب الأنهار وفي السهول الخضراءً ثم تعود مساء، وتصدر حينها أصواتاً خاصة تخبر صاحبها بضرورة حلبها، حسب علاء العمر، أحد مربي الجاموس.

ويرى علاء الذي ورث مهنة تربية الجاموس عن أجداده، أن سهولة تربية الجاموس هي التي دفعت الكثير من أهالي سهل الغاب منذ القدم لاقتنائه، فالتعامل معه أسهل بكثير من التعامل مع بقية المواشي، كما أن كلفة تربيته كانت أقل بكثير منها، إذ يعتمد الجاموس على الرعي بشكل مباشر، ويأكل الكثير من الأعشاب التي تأنف بقية المواشي أكلها، ولا يتكلف المربي بتقديم العلف له إلا في سنوات الجفاف القاسية جداً.

إضافة لما سبق، فقد ألف أهالي المنطقة حليب الجاموس ولبنه، ويعتبرونه ألذ من حليب البقر، كما أن إنتاجية الحيوان من الحليب تضاهي بكميتها حليب البقر، وبالتالي فهي تشكل مصدراً تجارياً مهماً لسكان المنطقة.

يذكر أبو حسين (80 سنة) بأن أغلب بيوت سهل الغاب كانت تحوي حيوان الجاموس، وتجاوزت أعداد هذا الحيوان في فترة من الفترات 4000 رأس، لكن الجفاف الذي أصاب سهل الغاب بعد تجفيفه مطلع ستينات القرن الماضي، أثّر بشكل تدريجي على تربيته، فحيوان الجاموس من الحيوانات التي تفضل العيش ضمن المستنقعات أو الأنهار، وتقضي غالب يومها ضمن الماء.

يستطرد أبو حسين متذكراً أنه في ذلك الوقت تعالت الأصوات الرافضة لتجفيف الغاب وتغيير طبيعته، لأن تجفيفه سيقضي على تلك الثروة الحيوانية، في حين كان بالإمكان الاهتمام أكثر بهذا الحيوان ليشكل ثروة اقتصادية مهمة في البلاد، لكن تلك الأصوات لم تلقَ أي استجابة من المعنيين وتمت عملية التجفيف، وبدأت أعداد الجواميس بالتراجع.

خلال السنوات الأخيرة كان للحرب آثار مدمرة على تربية الجاموس، حيث تسبب النزوح الى مناطق جبلية تصعب تربية الجاموس فيها، وانحسار  المساحات الخضراء في سهل الغاب، ثم بيع الكثير من المربين حيواناتهم لتذبح، بتبدد هذه الثروة الهامة

تقتصر تربية الجاموس اليوم على قريتي "التوينة" و"الشريعة"، يقول علاء: "كان عنا بين 150-200 راس، اليوم ما ضل عنا غير 15. العلف غالي كتير وما عنا قدرة نشتري". ويتجاوز سعر كيس العلف اليوم 8 آلاف ليرة سورية، ويحتاج حيوان الجاموس 10 أكياس علف في الشهر الواحد، ومع غياب المراعي يجد المربي نفسه مضطراً لشراء العلف "وبسعر السوق".

تلك العوامل لعبت الدور الرئيس في تراجع تلك الثروة الحيوانية، وخفضت أعدادها بشكل كبير، فلا يتجاوز عدد الجواميس الموجودة في المنطقة 70 رأساً، بينما كانت في وقت سابق تنتشر في أغلب قرى سهل الغاب، بحسب محمد عنيزان، رئيس الوحدة الإرشادية في بلدة الشريعة. يقول العنيزان: "نملك في الوحدة الإرشادية (مخبر ثروة حيوانية)، ونحن قادرون عبره على تقديم الرعاية الصحية للجاموس، لكن المخبر اليوم خارج عن العمل، لعدم توفر الكلفة التشغيلية وغياب بعض المواد الكيماوية، وقدمنا الكثير من المناشدات للمنظمات الراعية بهدف الحصول على تمويل لتشغيل المخبر ولم نتلقَ أي تجاوب". ويتابع، "نستطيع بقليل من الرعاية والدعم النهوض بهذه الثروة من جديد لاسيما أن حيوان الجاموس من الحيوانات المقاومة للمرض والقادرة على الإنتاج والتكاثر بشكل جيد".

مع حلول المساء يصدر علاء صوتاً عالياً لتسمعه مواشيه، فتتوجه إلى حظيرتها ويغلق الباب خلف بقاياها، ويحكي شيئاً عن حلمه بعودة ممتلكاته من هذا الحيوان إلى سابق عهدها، حيث كانت تملأ الحظيرة بشكل كامل.