براميل الليل

حلب - عدسة عمار عبدالله -وكالة قمرة - خاص

مع دخول صيف عام 2015، قام جيش النظام مدعوماً بحلفائه بهجوم على المنطقة التي نزحتُ إليها. ومن البديهي القول إن عمليات القصف الجوي أخذت منحى متصاعداٌ منذ اليوم الأول للعملية. البراميل المتفجرة التي كانت تلقيها مروحيات النظام فرضت على سكان المنطقة الانتقال نهاراً إلى الأراضي الزراعية، والعودة مع حلول الظلام. استمر الوضع على ذلك لأكثر من أسبوعين، إلى أن انتقل إجرام النظام في إحدى الليالي إلى مرحلة جديدة لم يألفها الناس ذلك الوقت.

بعد عودتي متأخراً من صالة الإنترنيت، بدلت ملابسي وجلست أتناول بعض الطعام. عمي وأبي كانا يتداولان الخيارات المتاحة والاحتمالات المتوقعة. جدّتي التي تجاوزت من عمرها التسعين، لم تفهم أكثرَ حديث ولديها، فهي كما قالت لي لم ترَ أبداً أحلك من هذه الليالي، رغم ميلادها الذي تزامن مع انطلاق الحرب العالمية الأولى. أمي وأختي وزوجتي الحامل كانوا في زاوية غرفة الضيوف الكبيرة ينتظرون أصغر خبر وأتفه تحليل، علّه يخرجهم من هذا الكابوس. وحده مصباح الكاز من كان قادراً على العمل بكامل تركيزه، بعد أن تم استدعاؤه من التاريخ القريب وإعادته للخدمة.

تناهى إلى مسامعنا صوت مريب، بالكاد استطعنا تمييزه. طلب مني أبي أن أستطلع ذلك الصوت. عندما عدت، انتظرَ الجميع أن أقول لهم إن الصوت هو صوت مولّدة بعيدة. «حوّامة»، أجبت دون أن يُعلّق عليَ أحد. البراميل لا تُرمى ليلاً، هذا ما تعارفنا عليه مع سلاح الجو لدى النظام السوري. لكن قبل أسبوع واحد استُهدفت قرية قريبة، مما جعل الفكرة تدور وتتفاعل في رؤوسنا. صوت آخر للمنطق يقول: إن تلك القرية كانت قريبة من خط الاشتباك. وما هي إلا ثوان حتى يبدأ صوت المروحية المتصاعد بالخفوت.

بعد دقيقتين كان صوت المروحية ينخر في رأس كل كائن في القرية، بعد أن توقفت كل المولدات عن العمل، وأُطفئت الأنوار، وحبس الجميع أنفاسهم وأنفاس أطفالهم. لم يجرؤ أحد على الكلام، ومن تجرّأ لم يجد أي كلمة ليقولها. حتى الكلاب التي كانت تنبح بكل قوتها عرفت أن هذا الموقف جديد لم يمر عليها من قبل، فآثرتِ الصمت. عرفتُ أن المروحية سترمي براميلها فوق القرية، فصوتها أصبح صاخباً لدرجة أني ظننتها سوف تهبط على سطح البيت، ليتك أيها الطيار تذهب وتأتي نهاراً عشر مرات.

خرجت من المنزل فتخيلت الشظايا تقطّع جسدي. عدتُ إليه فرأيت سقفه مطبقاً عليّ. أظن أن من عاش منكم تلك اللحظة، يعرف أنه لا داعي من الخجل بالقول إني لم أعد أفكر إلا بنفسي.

بدأ صوت الموت القادم من السماء. التصق الجميع بالأرض، عدا جدتي التي انتظرت إشارة من أحد أبنائها «أنبطح ؟؟؟». عبثاً حاولت إقناع نفسي أني إذا سمعت صوت صفير البرميل، فحتما لن يقع فوقي. لا وقت للعلم والفيزياء في ذلك الوقت، ولا حاجة في تلك اللحظات، لتذكر كم كانت تساوي سرعة الصوت.

تسارع الصفير ليتحول إلى الجعير المعتاد، ليتبعه الانفجار الذي يعني أن أناساً قد ماتوا أو تمزقوا في عتمة الليل، وفي أحسن الأحوال منزلاً قد أضحى ركاماً. عاد الصمت مجدداً بانتظار البرميل التالي. لكن صوت الحوّامة بدأ بالتراجع ليختفي في إحدى الجهات الأربعة التي أظلمت كلها.

كالعادة هجم الجميع إلى السيارات ليحملوا ما يمكن حمله من أوراق ونقود وبعض الطعام، وأطفالهم بطبيعة الحال. لكن القمر اختفى وتآمر مع القاتل. ليتك عرفت يا أبا فراس كم افتقدنا البدر تلك الليلة.

في نور النهار كانوا يقودون سياراتهم كالسكارى هرباً. فلكُمْ أن تتخيلوا كيف قادوها في الظلام. لم يسمحوا لي، وأنا أحاول التهرب من النزوح معهم، أن أستخدم «ضوء القداحة» الخافت، فمن الممكن أن يراني الطيار. بينما هجموا على ابن عمي المراهق الذي أشعل سيجارته، فجمرته من الممكن أن تتحول إلى حريق لا يمكن إطفاؤه في الدار، وفي قلوب سكانها. ظننتهم سخروا منا عندما قالوا «إن الغريق يتعلق بقشة».

هرعت مسرعاً مع عمي لنحمل بناته النائمات، دون أن يعرفن أن تلك اللحظة لا ينام المرء فيها أبداً. هيا يا بنت عمي الصغيرة، استيقظي فأنت التي ستروين لأحفادك وللناس بعد موتنا ما كان يجري.

لم يُفكّر أحد فوق أي رأس سقط ذلك البرميل، ولم يخطر لنا الذهاب للاستطلاع. فلا فكرة لدينا أي الاتجاهات علينا أن نسلكها لمعرفة مكان سقوطه، بينما كان اتجاه النزوح واضحاً، لدرجة أن النازحين استخدموا ذاكرتهم أكثر بكثير مما استخدموا أعينهم.

كانت تلك الليلة، القشة التي قصمت ظهر البعير. تنازل الجميع عن النهار، وبالتأكيد لن يستطيعوا التنازل عن الليل معه، وعليهم الآن البدء بالبحث مرة أخرى في دروب النزوح.