لم تخفِ إيران رغبتها في التحول إلى قوة إقليمية، وصرحت مراراً أنها تتحكم في أربع عواصم عربية، هي بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء، ناهيك عن تأثيرها الخفي في أماكن أخرى.

ولم تقف دولة ولي الفقيه عند الشعارات، بل زجّت بكل ما تملك، ووضعت ثقلها بالكامل في كل من العراق وسورية، عبر عمل طويل وجاد من خلال تأسيس الميليشيات العسكرية أولاً، والانتقال إلى المجال السياسي ثانياً، بقصد تفكيك هذه المجتمعات ثم إلحاقها كلياً أو جزئياً بفلكها، كمناطق نفوذ.

ونتيجة فشل السياسة الأميركية في العراق بعد احتلاله عام 2003، والعداء المعلن تجاه العرب السنّة بحجة أنهم من أتباع الرئيس صدام حسين، وتأسيس نظام محاصصة طائفيٍّ الغلبة فيه للشيعة؛ استطاع نظام ولي الفقيه التحكم بغالبية الخيوط في بغداد بعد الانسحاب الأميركي.

ومنذ اندلاع الثورة السورية كان النظام الإيراني واضحاً في موقفه المنحاز لصالح النظام السوري، فانخرط مباشرةً في المعركة من خلال المستشارين ورجال المخابرات والسلاح، إلى أن زجَّ بتنظيمه في لبنان «حزب الله» أولاً. ومع نشوء التنظيمات الإسلامية المتطرفة على الأرض السورية، وإقامة داعش خلافتها على جزء من أراضي العراق وسورية، وجدت إيران الفرصة مناسبة للدخول المباشر وبكامل ثقلها، فاندرجت علانية في حملة مكافحة الإرهاب التي تلقى تأييداً عالمياً (على الرغم من تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية، وإيران دولة راعية للإرهاب، لكن المجتمع الدولي على توافق معهما في حملتهما لمكافحة الإرهاب الإسلامي السنّي المتمثل في داعش والمنظمات التابعة للقاعدة)، فعمدت إلى تأسيس العديد من الميليشيات الشيعية من مختلف بقاع الأرض، ودفعتهم في المعركة إلى جانب النظام الذي بلغ حالة من الضعف يستجدي فيها الجميع ويخضع لشروط كل من يقدم له الدعم.

استطاعت الميليشيات الإيرانية أن تستفيد على الأرض من عنف القوة الجوية الروسية، وأن تحقق إنجازات تهم الشيعة وادعاءاتهم في سورية؛ فتمكنت من عقد اتفاق المدن الأربع، وخلق مناطق آمنة حول دمشق وخاصة تلك المحاذية للحدود اللبنانية، لتأمين ممرات لنقل العتاد لحزب الله، كما تمكنت من فتح الطريق نحو بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في أوائل عام 2016، وهي المعركة التي قسمت الريف الشمالي لحلب وعزلت الجزء الأكبر منه، الذي صار يعرف الآن بمناطق قوات درع الفرات، كما أنها المعركة ذاتها التي مهدت بشكل ما لسقوط حلب الشرقية في نهاية 2016.

تسعى إيران إلى خلق مناطق نفوذ تمكّنها من التفاوض مع القوى الكبرى كقوة إقليمية فعلية. فبعد إنجازها الاتفاق النووي مع مجموعة الدول الخمس (الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) ورفع العقوبات الاقتصادية التي وفرت لها مليارات الدولارات المجمدة، ناهيك عن التماسك الذي اكتسبته بعد التفاف الشيعة حول ولاية الفقيه ودور إيران الجديد، أمام ضعف وتهلهل المعسكر المواجه لنفوذها وتشظيه بين تركيا والسعودية، سهُل إلى حد كبير طموحها في التوسع، وربط مناطق النفوذ الجديدة والقديمة عبر طرق برية سهلة للوصول إلى سواحل المتوسط عبر بغداد، ما يؤمن لها وجوداً أسرع وأكثر قابلية للتحرك والمناورة بعيداً عن الطرق البحرية الطويلة.

استطاعت إيران الاستثمار في التنوع المذهبي القائم في بلادنا وتحويله إلى صراع طائفي تمكنت من خلاله من نزع الهوية الوطنية عن غالبية الشيعة العرب في العراق وسورية ولبنان وغيرها، وتشكيل جيوش من الميليشيات التي تتغذى عبر أحقاد ومظلوميات لا أساس لها، لتحقيق مطامح إيران في الهيمنة على دول المنطقة وجعلها ساحة نفوذ وأوراق تفاوض مع القوى الكبرى باعتبارها هي قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.

أمام هذا الدور المتعاظم لإيران والواضح في تدميرها وتفكيكها أربعة بلدان عربية، منها سورية، لا بد من العمل بشكل جدي، ومواز لنضال السوريين من أجل حريتهم، لإضعاف النفوذ الإيراني وصولاً إلى الخلاص منه، بالاستفادة من الاصطفافات والتوازنات الدولية والإقليمية، الأمر الذي يعدّ شرطاً ضرورياً للخلاص من الاستبداد ونيل حقوق السوريين.