تُقيّم كلّ كارثة إنسانية يصنعها البشر بيئاتها الثقافية المتضادة، وهذا أمر شائع حتى في نطاقات ضيقة وثأرية. لكنه يُصبح أكثر وضوحاً وقوة وأثراً في امتداده الإنساني والتاريخي، حين يتعلق الحال بحدث كبير وعميق ذي نتائج عابرة للبعد المحلّي، إلى كونه كارثة بالمعنى الشامل لعلاقة البشر بمفاهيمهم عن الخير والعدالة والحق والحياة والحرية، ونقائضها التي اعتادت جلّ ثقافتنا على رفضها، واعتبارها تُنافي معنى وجودنا كبشر متحضرين.

وفي حين أنّ التعاطف مع الضحايا في حالات الكوارث الطبيعية يتميز عموماً بالسهولة والوجوبية، فإنّ الحروب عادة ما ترمي بثقلها الضاغط على الشخصيات العامة –لا أتحدث هنا عن الساسة وقادة الرأي–، وتدفعهم نحو مواقف حديّة، تنبش أصول تفكيرهم وثقافاتهم ومواقفهم من القيم الأساسية للحياة.

خلال عُمر المقتلة السورية، ظهرت مواقف متباينة وتمايزات ملفتة في طريقة التعاطي، بين شخصيات عامة ذات حضور عالمي طاغٍ، وبين شخصيات سورية يُفترض أنّها أقرب إلى الحدث المروّع، وأكثر إحساساً بوحشية الإبادة التي يتعرض لها المدنيون السوريون. واللافت أنّه في حين كانت أراء النجوم العالميين أميَل إلى التعاطف مع الضحايا، فإنّ من بين السوريين «النجوم» من أظهرَ علانية بغيضة في دعم القتلة، والتبشير بالإبادات الطائفية تحت ذرائع تكرّر سردية نظام بشار الأسد وحلفائه حرفياً.

 هل هناك حاجة لإيراد بعض أمثلة سورية؟ ربما يمكن الإشارة، كأرضيّة تُنشّط ذاكرة المقارنة، إلى ممثلات سوريات –يوصفن عادة بالجميلات-، وهنّ يتشدّقن على صفحاتهن في وسائل التواصل الاجتماعي بـ «بطولات» إرهابيي حزب الله والحرس الثوري والحشد العراقي، على جثث أطفال حلب وداريا والغوطة الشرقية ومضايا والزبداني وغيرها الكثير، أو إلى صورة متداولة لممثل يُقبّل «بسطار» عسكري عاد لتوه من مهمة قتل، أو إلى مراثي شعراء وكتاب لطيار روسي أُسقطت مقاتلته. ولعلّه يمكن التلميح إلى خلفيات ثقافية محددة وراء هذا، لكنه سيكون تعميماً جائراً. فـ«التشبيح النجومي» يمتد على رقعة واسعة تطال جميع الانتماءات والخلفيات، وإن كان يجب التنويه بصراحة إلى أنّ سياسة «تطييف الواجهات الثقافية والإعلامية والفنيّة» جعلت هذا الاستنتاج ممكناً؛ لأنّ معايير الوصول إلى موارد الشهرة في سوريا، لطالما كانت في وضع مشابه لمعايير الوصول إلى المناصب والأموال العامة، وهذه وتلك مرتبطتان بقرارات أجهزة المخابرات، إلاّ في حالات نادرة جداً.

ويقتضي الإنصاف هنا أن نذكر أنّ ثمة في صفوف المعارضة من ينتسبون بحكم الاعتياد إلى هذه الظاهرة، وبعضهم مازال يحتفظ بإحساس أولوية «النزعة الأقلوية»، كحصانة لمنح تعاطفه وقعاً أكثر أهمية. والمتابعة السريعة ستكشف أنّ ردود الأفعال على الشنائع التي تحدث في سوريا، سواء من قبل النظام وحلفائه، أو داعش والنصرة، أو من قبل فصائل محسوبة على المعارضة، تأخذ طابعاً متغايراً في حدّته بحسب هوية الضحية. في المقابل هناك «نجوم» من المثقفين المعارضين يعتقدون، كنزعة أكثرية تدّعي البراغماتية، أن داعش يمثل استثماراً مقبولاً بصورة مؤقتة للإطاحة بالنظام.

مالذي يثير هذا الأمر في سوريا كل مرة؟ إنّها ببساطة لفتةٌ من نجم عالمي مثل لاعب ريال مدريد الأشهر كريسيتانو رونالدو الذي نشر، لسبعين مليون متابع له، فيديو يتعاطف فيه مع أطفال الغوطة، وهم يذبحون تحت قصف لا يتوقف. في حين كان نجوم فريق كرة القدم السوري يحصلون على امتيازات احتكارية وتجارية من القتلة.

رونالدو لا يحتاج إلى تبنّي قضيّة من أيّ نوع ليزيد شهرته –الواقع أنّ كلّ متر يقطعه في الملعب يضخّ مزيداً من الشهرة في رصيده-، لكنّه شابّ ينتمي إلى بيئة تفهم معادلة بسيطة، «قتل المدنيين جريمة، وقتل الأطفال وحشية لا يمكن إسنادها إلى أيّ مبرر». إنّه ببساطة أكثر وضوحاً «شخص يكترث» إن رأى صوراً لأطفال ونساء ورجال –بل وحتى حيوانات منزلية-، وقد تمزقت أشلاؤهم تحت هول ضربات عشوائية وهيستيرية، من البراميل المتفجرة والقنابل الارتجاجية والغازات السامة. هي معادلة بلا مجاهيل تتعلق بحدّي الضمير والموقف، «لا يكترث» لها أقرانه الرياضيون الشبيحة الذين يهرعون إلى رفع قمصان المنتخب عند أي مناسبة، لتظهر تحتها صورة سفّاح الغوطة، وكأنّها صورة لطوق حصار الغوطة، بين جسد اللاعب الذي حقق فوزاً وبين معنى فوزه الذي سيقدمه للناس، هي مشهدية تقتل انتماء هذا الفريق إلى من يُفترض أنه يلعب باسم بلدهم.

في واجهة أخرى تحمل طابعاً تأكيدياً، هناك فارق كبير بين حضور رونالدو النجم الأسطوري ذي الجسد المنحوت كآلهة إغريقية، وبين حضور أهمّ عقل فيزيائي في العالم بعد آينشتاين، وهو البروفيسور ستيفن هوكنيغ الذي توفي منذ أيّام قعيداً على كرسيه المتحرك؛ لكنّه من عزلته الكونية وعجزه الحركي المطلق، كان قادراً على تحريك غضبه من المذبحة ـوأطلق صرخته الغاضبة ضد عالمٍ اعتبره يخوض في بدائية الصمت، على مقتلة ستظل صورها تحوم في الكون إلى الأبد.

 

المقارنة مؤلمة في ابتعادها عن منطق «عقل الانتماء»، وتفسير مهمّة النجم بقليل من الشرف، إذ أنّ مقابلة 

الصورة التي يقدمها لاعب كبير لدور النجومية الإنساني، بصورة هوسِ البروفيسور هوكينغ بمصير الكون، ستقود إلى نتيجة أساسية، وهي أن دورنا كبشر، نسعى إلى تخليد أدورانا الحياتية المؤقتة، مرتبط برفض فكرة الفناء التي تتحول إلى أداة منهجية للبقاء عند نظام كنظام بشار الأسد. هنا تقع المفارقة الكبرى بين التزام عالمٍ بتفسير الحياة، وانهماك آخر في اختراع أدوات إبادة عشوائية مقابل فتات من المال

 والسلطة، قد لا تتجاوز بطاقة أمنية تؤمن مروراً سهلاً على حاجز إيراني في شوارع دمشق.

خذوا نموذجا أكثر «جمالاً» من سابقيه، السيدة إنجيلنا جولي، أشهر من أن تُعرّف، اسمها يمنح أيّ فيلمٍ طوابير طويلة من المشاهدين، وهي منذ بدء حرب بشار الأسد على السوريين تزرع الأرض من مخيم لاجئين إلى آخر. وبينما هي تتحدث أمام الأمم المتحدة عن مأساة ملايين الأطفال السوريين، كانت إحدى زميلاتها السوريات تنظم احتجاج الصدور العارية الشهير، دفاعاً عن مبدأ قتلهم بالسارين وغازات الأعصاب الأخرى، وثانية تخطو فوق الجثث في داريا، وثالث يهيمُ في ولهٍ مقزز بشخصية إرهابية مختلة كقاسم سليماني.

جولي لاتحتاج إلى أن تبدو أكثر شهرة، والأطفال الذين تُجالسهم في مخيمات الأردن ولبنان وتركيا قد لا يتمكنون من إضافة دولار واحد إلى عوائد أفلامها، غير أنّها تقدّم ما تفهم أنه الغرض النهائي لدورها... يجب ألا يموت الأطفال من الجوع، كي يُمكن للرخاء أن يُنتج فناً أفضل.

 لا نتحدث عن أنبياء، وليس من الضروري أن يكون المرء نبياً ليدرك حق الضحايا بموقف شرف. ابحثوا في الإنترنت وستجدون سيراً مليئة بما نعتقد، حسب ثقافتنا، أنها أخطاء شخصية ارتكبها رونالدو وهوكينغ وجولي، لكن عندما يتعلق الأمر بدرجة الاكثرات لإبادة جارية، من «سيكترث» لتفاصيل صغيرة كهذه؟....إنه أساساً سؤال في الشرف قبل النجومية.