الناس الباقون في دير الزور

ديرالزور الشارع العام - عدسة محمد الحامد

أمام مطبخ للتنظيم وقف أبو جهاد، الرجل الخمسيني، بانتظار دوره للحصول على وجبة غداء. توزع داعش وجبة طعام واحدة مجانية كل يوم. في ظهيرة حارة أمام المطبخ يجد أبو جهاد، المتصبب عرقاً، نفسه في موقف متناقض، فهو يكره داعش إلى «أبعد حد» حسب ما يقول ويضطر في الوقت ذاته إلى قبول صدقتها. حال مؤسفة لم يتوقع الرجل الذي تجعد جبينه وشابت لحيته بسرعة خلال «عهد داعش» أن يصل إليه.

«نسينا المشط والحلاق والدخان ولبس البنطلون»، «نسينا حتى أسماء الدواعش من ولاد البلد وحفظنا لهم أسماء اخرى، غامدي وأنصاري وحضرمي وبطيخ مبسمر»؛ يقول أبو جهاد، الموظف الحكومي السابق الذي لم يفقد حسه التهكمي رغم «الويلات» التي مرت به وبالمدينة. إذ كان شاهداً على سحق أجساد صغيرة تحت البراميل المتفجرة، وخفوت أصوات جرحى حتى الموت، وانهيار أبنية لتساوي الأرض، إلى جانب حفلات إعدام تشبه الأفلام، حسب ما يقول.

معظم البيوت تعيد إعداد وجبات داعش، البدائية والناقصة على الدوام، بإضافات تجعل الطعام مستساغاً. ومعظمها يعتمد اليوم على هذه الوجبات كجزء من برنامجه الغذائي الفقير جداً لضيق ذات اليد أمام الارتفاع الهائل لأسعار اللحوم والخضروات، المنقولة عبر القوارب من الريف إلى الجزء الخاضع لسيطرة داعش في المدينة. تكاليف النقل بالقوارب بين ضفتي النهر، بعد تدمير الجسر اليوغسلافي، ضاعفت الأسعار عن مثيلاتها المرتفعة أصلاً في الريف، ما دفع عشرات الباعة إلى تصفية أعمالهم الصغيرة والرحيل. ويفكر معظم من تبقى بهذا بعد قرارات داعش الأخيرة، التي تحاول فيها فرض تداول عملتها النقدية وسحب ما يقابلها من عملات لدى التجار والباعة، ليصبح شارع التكايا شبه خاو إلا من بضعة محلات وبسطات خضار، بعد عز وازدهار لم تقطعه الحرب بعد سيطرة الجيش الحر صيف عام 2012، بل والأشهر الأولى من سيطرة الدواعش، قبل أن يحل الخراب الذي جلبوه بالتدريج.

يضم الجزء الخاضع لسيطرة داعش من مدينة دير الزور أحياء الحميدية والعمال والمطار القديم والصناعة وخسارات وكنامات والحويقة والشيخ ياسين والعرضي، وأجزاء واسعة من أحياء الجبيلة والموظفين والرصافة. يقدر عدد السكان المتبقين في هذا الجزء بنحو أربعة آلاف نسمة، يتركز معظمهم في حي الحميدية.

يروي شاب غادر بيت أهله في دير الزور مؤخراً، بعد ثلاثة أعوام من الإصرار على البقاء فيه، ما حل بحديقة صغيرة في حارته، كان يتولاها بالعناية أيام الجيش الحر: «ما ظل مي. قلنا لداعش: خلي الصهريج يسقيها لو بالأسبوع مرتين، قالوا: عليش نحن فاضيين للحدايق!»، و«فعلاً مو فاضيين». «بعد كم شهر باعوا سجر الحديقة لمتعهد، قصّه كله، وصارت الحديقة تراب يابس».

إلى جانب البضائع القليلة التي تنقلها القوارب بين ضفتي نهر الفرات، تنتقل أخبار لا تلبث أن تتغير لتصير شائعات في هذه البقعة شبه المعزولة عن بقعة معزولة أوسع هي أرض داعش. فعندما يصل خبر تقدم «قسد» في ريف الحسكة الجنوبي تجاه دير الزور، تبدأ القضية بـ«الأكراد وصلوا مركدة»، ثم «صاروا بالصوَر»، ثم «المعامل»، إلى «داعش قعد تخلي مقراتها من البلد». وهكذا تسرع «قسد» من الشمال، ويسرع، في حالة أخرى، النظام من الجنوب (السخنة – كباجب – الشولا) ليفك الحصار. وفي الحالتين يخلي الدواعش مقراتهم تحضيراً للانسحاب.

تفضل الأغلبية أن يكون الجيش الحر، أياً كان، هو المتقدم صوب دير الزور: «ابن بلدك هذا، مهما كان ما راح يفظع مثل النظام»؛ يقاطع رجل أربعيني نقاشاً بين جاريه عن القوة القادمة. ويبدي، رغم كل شيء، تفاؤلاً غير منطقي بالنسبة إلى محدثيه بالأيام القادمة. «شكون جيش حر؟ ليش راح تسمح أميركا بجيش حر؟!»؛ يرد الرجلان المؤمنان بالمؤامرة التي توحَّد فيها النظام وإسرائيل وأميركا وإيران وروسيا والخليج، وداعش طبعاً، «ضدنا». قبل أن يؤذن مؤذن جامع الحسين بصوت يسمع بصعوبة، ويمضي الثلاثة لأداء صلاة المغرب في قبوه، قاطعين جدلهم شبه الدائم حول مستقبل المدينة. الجدل الذي يبدو ترفاً وفصاماً في واقع داعش والقذائف والقصف والموت والفاقة والجوع وانقطاع الماء والكهرباء وغير ذلك، مما لا يسمح لأحد أن يتشرّط على أي غد، ويفرض عليه أن يقبل بأي خلاص مهما كان.