المسحر تراث جميل أفسدته الرّعونة والجهل والتطبيل

بثلاث دقّات منتظمة على البازة (طبلة المسحّر) يستعيد أبو أحمد في ريف حلب الغربي طقوس مسحّر رمضان التي غابت منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد منعها وتحريمها من قبل داعش وبعض الفصائل الإسلامية، ليُطرب ليل الصائمين ويُوقظهم على إيقاع مُتّزن، يُرافقه نشيد مُتوارَث ومدائح نبويّة وقصص وحكايات، زارعاً الفرح في قلوب الصغار الذين يُلاحقونه في الحواري.

والمسحّر أحد معالم شهر رمضان التي رافقته منذ بداية ظهورها في مصر 238 للهجرة كشخصية أثيرة يُنتظر قدومها وتُفرِح سامعيها، واسمه مُشتقّ من السّحور، أي تناول وجبة الطعام قبل أذان الفجر. وإن كان بعض الدّارسين قد أعادوا التسمية أيضاً إلى جذرها اللغوي «سِحْر» لما رافق شخصية صاحبها من جاذبية وتأثير روحاني.

شارك المسحّرون في الثورة السورية منذ بدايتها، من خلال الألحان التي نظموها لإيقاظ الناس على أناشيد الثورة والدّعاء على الظالم، فكانوا يٌوقظون الناس على عبارات من مثل «يا نايم وحد الدايم، حكم الأسد مو دايم» و «قوموا عالحرية تسقط العصابة الأسديّة ويسقط حكم البعثية» و«قوموا لنشيل بشار حكم الظالم طار»...

يُضيء وجه المسحر «أبو أحمد» وهو يستعيد ذاكرة الأيام الأولى من الثورة «كنا نخترع هي الكلمات، وكانوا الولاد، والقصف فوقنا، يمشوا معنا ويعيدوا ورانا هي الكلمات والأناشيد».

منعت داعش مهنة المسحّر في المناطق التي كانت تسيطر عليها، بينما أعادت هيئة تحرير الشام سنّة الأذانين (الأول للتنبيه على السحّور والثاني للإمساك)، إلّا أن هذه المهنة عادت للظهور مع طرد داعش وانحسار سيطرة هيئة تحرير الشام على بعض المناطق في ريف حلب الغربي، يقول عبد الله أسعد «لا أعرف سبب منعها، تلك المهنة عمرها أكثر من 1200 سنة، وكانت موجودة في عهد الرسول والصحابة، وكان يقوم بها شخص يسمى الزمزمي، وكان يتّبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منه قنديلان كبيران، حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد».

يُخبرنا الأسعد «الذي ورث مهنة المسحّر عن والده» أن هذه المهنة تُعدّ فناً حقيقياً كان يُذاع عبر الإذاعة والتلفزيونات العربية، تُصاغ من أجله كلمات وألحان خاصة، وكان لهذه المهنة كغيرها من المهن في مدينة حلب شيخ كارها ونقيبها وشاويشها، كما كان على المسحّر أن يمتاز بحلاوة الصّوت وحسن الأداء وحفظ الموشحات والمدائح النبوية ومعرفة السكان، ويجب أن يُجاز من قبل شيخ الكار ليمارس هذه الحرفة.

استبدل معظم المسحّرين الجدد «البازة» بالطبل الذي راحوا يضربون عليه ألحاناً عشوائية غير منتظمة، وتغيّرت طقوس التّسحير وتحوّلت إلى مصدر إزعاج لقيام مسحّرين غير مؤهلين بهذه المهمة، أحدهم في مدينة جرابلس كان يحمل «ميكروفوناً بأضواء» وطبلاً، ويتنقّل عبر دراجة نارية، ما بات يُشكّل حالة إزعاج للأهالي، بعد أن كان مصدر راحة وسعادة، يقول أبو محمد «ما عاد المسحّر متل زمان، لا صوت ولا لحن ولا قصص، والطبل بيزعج الحارة وبيخوف الولاد».

تتحسّر أم علاء على أيام زمان، عندما كان المسحّر يرتدي لباسه الخاص (شروال وصدرية) وينطلق في منتصف الليل حاملاً عدّة العمل «الطبلة والسلة والفانوس وسير الجلد الذي يضرب به الطبلة» عبر الحارات المظلمة، يقرع الأبواب ويردد عبارات رمضان التقليدية، والأشعار والمدائح المتوارثة. ‏ويقف أمام كل بيت لدقائق لينشد (لا إله إلا الله محمد الهادي رسول الله) ثم يُواصل ضرب طبلته ويقول: (يا غافلين وحّدوا الله -قولوا لا إله إلا الله) ويتابع (يا نايم وحّد الدايم) (حباكم الله بكل عام بجاه المظلل بالغمام)، (و يا قاعد اذكر الله) ثم يواصل حديثه فيقول: (يا أسعد الله لياليك يا أبو فلان)، وغالباً ما يكون إلى جانبه طفله الذي سيرث هذه المهنة عن والده، يحمل في يديه فانوسين، ليعلّمه هذه الحرفة من حيث تعلّمِ الإيقاع والنغمات والأشعار والحكايا والقصص التي يرددها أثناء التّسحير، والابن يحمل السّلة التي يجمع فيها أُعطيات الطعام. وللمسحّر دور في مساعدة الأغنياء في إيصال زكاتهم إلى المحتاجين، والتذكير بأسماء البنات الأبكار ليعلم الناس بأنهن صرن مؤهلات للزواج.

لم تعد مهمة المُسحر اليوم إيقاظ الناس للسحور (فقد تكفلت أجهزة التنبيه والهواتف المحمولة بالمهمة) بقدر ما هي مهمة فلكورية للحفاظ على تراث وطقوس الشهر الكريم، ولإحيائها، يجب على المسحرين أن يلتزموا بأصول هذه المهنة وشروطها، على حد قول الأسعد.