العنصر الحكائيّ في أخبار الثوار

اللوحة للفنان عمرو عيسى

أخذ الكثير من أخبار الثوار شكل الحكايا في سردها وعناصرها. وكانت دائمة الخروج عن هدفها الأساسيّ، في الإخبار أو تسليط الضوء أو وصف الحدث أو حتى التسلية، إلى أهدافٍ أخرى. وكانت لها دوافعها الخارجة عن الإرادة، فكما كانت استجابةً لمطلبٍ نفسيٍّ جماعيّ، فقد صدرت عن عقلية الأهالي ذاتهم.

ففي الأوقات العصيبة التي مرّ بها الحراك السلميّ، حين كانت تغلق الدروب أمام الثوار بسبب الردود العنيفة التي كانت تواجههم، كان يشاع خبر اغتيال مسؤولٍ ما كحلٍّ وحيدٍ أمام تلك المآزق التي لم يجهز المتظاهرون أنفسهم لها. فيبدأ الخبر على شكل تسريبٍ من سائق هذا المسؤول أو مرافقه أو مدير مكتبه، ليبدو كشخصٍ قريبٍ من الناس، فيتوحد الفاعل والشاهد والراوي، بعد أن تذوب الحدود بينهم في ذلك الحدث/المطلب الجماعيّ المشترك، وتسقط أفعال النقل (قال أو حكى)، حتى يتحول الخبر إلى حكايةٍ بتفاصيل تشمل حتى اللحظات التي من المفترض أن تكون فيها شخصية الخبر بمفردها.

ومع انتشار كتائب الجيش الحرّ في دير الزور، منتصف 2012، وبدء حملة الحرس الجمهوريّ، صارت أخبار الثوار مكرّسةً للجوانب العسكرية. ومنها أن جنود النظام الذين شاركوا في الحملة كانوا يمشون على جثث القتلى من زملائهم، في حكايةٍ تؤكد شجاعتهم وجرأتهم وتدريبهم العالي، فهم بذلك أعداء أقوياء كما يبدو من الخبر. لكن الجيش الحرّ، الذي بقيت منه أعدادٌ قليلةٌ فقط في المواجهة، استطاع أن يوقف زحفهم. بينما يأتي خبر تعاطي هؤلاء الجنود حبوب الهلوسة، وقد ظهر في الفترة ذاتها، للتخفيف من الشجاعة التي منحهم إياها المشي على جثث بعضهم. كما أن القتلى من قادة كتائب الجيش الحرّ (قيصر الهنداوي خاصةً) لم يموتوا، الأمر الذي ظل متداولاً لمدّةٍ طويلة، مع تأكيد متناقليه أنهم رأوه بأعينهم في المكان الفلانيّ. فتعويل الأهالي على شخصية المقاتل وبطولته الفردية وصفاته الجسمانية، ووضع الآمال في كل ذلك، والحاجة الماسة لإيقاف الشعور بالخيبة؛ جعلت من الجميع صانعين ومتلقين لخبر تكذيب موت القائد.

كما يطفو العنصر الحكائيّ بشكلٍ واضحٍ بعد الخلافات بين الفصائل المقاتلة. إذ إن الفصيل المغلوب، وقد جُرّد من سلاحه أو عتاده أو اعتقل عناصره أو اغتيل قائده، دائماً يُظهر خبراً يفيد أنه كان يحضّر لعملٍ عسكريٍّ ضخمٍ يهدف إلى تحرير مناطق أو الهجوم على قطعٍ عسكرية. ينطبق هذا على الكتائب الصغيرة كما الفصائل الكبيرة، ويشمل كذلك تنظيم الدولة. في محاولةٍ للاستعطاف وكسب التأييد، أو إلقاء اللوم على الخصم والدفع باتجاه الشعور بالذنب، ورفع التهم الموجَّهة من الطرف المهاجم، الذي يكون في العادة قد كثف جهود عناصره وأنصاره لإشاعة مساوئ الفصيل المغلوب. كما يطفو بشكلٍ مطردٍ، مع هرب قائد فصيلٍ ما، أن الهروب تمّ -بحسب تلك الأخبار- بملابس نسائية. ويخدم ذلك هدف إنزال أكبر هزيمةٍ معنويةٍ محتملةٍ بالخصم.

في تلك الأخبار/الحكايا لا يسمح دور الفرد ولحظة الحدث بظهور العناصر الواقعية الأخرى، ويبرز ذلك جلياً في خلافات الثوار، التي تحدث عادةً حول إسهامات شخصيةٍ ما وموقعها في الثورة، فتبدو الخلافات بين مروياتٍ متعددة، تحاول كل منها تنميط تلك الشخصية بشكلٍ ما، فتتنقل من «الحرامي» إلى «البطل».

كما تُربط النتائج بأسبابٍ أخرى أكثر قرباً من العقلية السائدة، فتصبح المرأة -على سبيل المثال- سبباً لأحداثٍ كبيرة، كما حصل عند ربط إعداماتٍ قام بها تنظيم الدولة، عند سيطرته على دير الزور، بقسَمٍ أطلقه أحد قادته المحليين، عامر الرفدان، أن يقتصّ لإحدى النساء اللواتي اعتقلن في وقت سابق.

وإذا كانت الحكاية الشعبية في الماضي تُنقل شفوياً، فإن حكايا اليوم (الأخبار هنا) وجدت طريقها إلى التدوين، فقد أتيحت للكثيرين كتابة أفكارهم وحكاياهم، ونقل ما سمعوه -بسرعةٍ فائقة- عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ، التي تشكل هذه الأخبار فيها «التاريخ الآخر» إن صح التعبير، او ما يمكن أن يكون «الإعلام البديل عن الإعلام البديل».

بعيداً عن صدق هذه الأخبار وكذبها، ومعقوليتها وعدمها، فإن الجدير بالملاحظة هو المشتركات فيها، حتى تبدو وكأنها نتفٌ من تاريخٍ بلا زمانٍ ومكانٍ محددين، تكون فيه الأحداث والشخصيات قوالب جاهزة، تبث فيها الروح أسماءٌ ووقائع متغيرةٌ باستمرار، لكن بصفاتٍ متشابهةٍ إلى حدٍّ بعيد.