الزراعة في دير الزور
واقع مأساوي وبدائل غير متاحة

الحريري - رويترز

استطاع نظام الأسد الأب، عبر استغلاله تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، ودعم قطاع الزراعة، وإنشاء الاتحاد العام للفلاحين، من كسب دعم اجتماعي في ديرالزور لسلطته السياسية الناشئة آنذاك، بحيث أبقى السلطة الحاكمة محتكرة للثروة ومتحكمة بها لضمان الولاء السياسي في المنطقة. إلا أن واقع الزراعة اليوم، لا يبدو أنه يتيح تطبيق مثل تلك المعادلة مجدداً لنظام الأسد الابن، بل ستكون، على الأغلب، عاملاً من عوامل عدم الاستقرار فيها.

تشكل الزراعة، بشقيها النباتي والحيواني، في دير الزور، الوجهَ الأبرز للاقتصاد والأنشطة التجارية والبشرية في المحافظة، إذ يعمل (43) % من السكان في القطاع الزراعي، وفقاً للتعداد الزراعي السوري 2004. ويعتمد الفلاحون والمزارعون والمربّون في مداخيلهم الرئيسية وأمنهم الغذائي على إيرادات محاصيلهم الموسمية، وتربية الحيوانات المزرعية. كما تشكل تجارة المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية ومشتقاتها مداخيل أساسية لقسم غير قليل من سكان دير الزور. ولطالما كان الدعم المقدم من نظام الأسد لقطاع الزراعة، عامل استقرار اقتصادي للمزارعين والفلاحين ومربي الأغنام في دير الزور.

تبلغ مساحة الأراضي الزراعية المزروعة فعلياً في محافظة دير الزور (174644) هكتاراً، نسبة 86% من مساحة الأراضي، يتم سقايتها من الآبار ونهر الفرات بواسطة محركات الديزل، أو من خلال مشاريع الري الحكومية في ريف دير الزور الشرقي، بينما تعتمد (24000) هكتاراً على مياه الأمطار. وتختص محافظة دير الزور مع محافظتي الجزيرة السورية: «الحسكة، الرقة»، بزراعة المحاصيل الاستراتيجية: «القطن، القمح، الشعير، الشوندر السكري»، هذا التخصيص يأتي ضمن سياسات نظام الأسد الموجهة بتقسيم سوريا إلى قطاعات إنتاج زراعي متخصصة.

واقع الزراعة وضعفها

على الرغم من ازدهار الزراعة في بداية تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في عهد نظامي البعث والأسد، من خلال التسهيلات والدعم المقدم من الدولة: «قروض مالية، بذار، سماد، أعلاف وأدوية بيطرية»، إلا أنها تدهورت في الجزيرة السورية عموماً بفترات متقاربة، في بداية الثمانينيات والتسعينيات، بسبب سنوات الجفاف في المنطقة. وازداد الوضع تدهوراً بانتشار ظاهرة التملح التي طالت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، بسبب اتباع طرق الري التقليدية والإسراف في ري المحاصيل، في وقت عجزَ فيه التخطيط الحكومي عن اجتراح حلول جذرية لمواجهة هذه المشكلة المتفاقمة.

وفعَل الانخفاض الشديد في الثروة المائية فعله بالزراعة، حيث كانت الاحتياجات المائية الكبيرة لري محاصيل: «القطن والقمح والشعير» سبباَ رئيسياَ له، إضافة إلى انتشار المشاريع الخاصة الممولة والمحمية من قبل مسؤولي النظام، وحفر الآبار غير المرخصة بكثافة في الجزيرة السورية بشكل عشوائي، أدى إلى استنزاف الثروة المائية في المنطقة، وجفاف نهر الخابور. فضلاً عن انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية بسبب تذرذر حيازات الأراضي بفعل الإرث، إذ أن قانون الإصلاح الزراعي الذي منع بيع وتأجير الأراضي الزراعية، لم يمنع توريثها.

إضافة إلى ما سبق، تلقّى قطاع الزراعة في سوريا الضربة الكبرى في بداية عام 2001، بسبب انخفاض أسعار القطن والقمح في السوق الدولية، ومن ثم ارتفاع أسعار النفط عام 2005، ما أدى إلى تحرير قطاع المحروقات، تبعه رفع الدعم عن الزراعة. تزامن الإجراءان مع سنوات جفاف في المنطقة، شكلت تهديداً اقتصادياً وغذائياً لقطاعات واسعة من السكان المحليين، وأدت إلى هجرة الكثير من المزارعين والعاملين بالزراعة باتجاه المدن الكبرى بحثاً عن مصادر أخرى للدخل.

في مواجهة هذه المشكلات المتراكمة عمد نظام الأسد إلى إنشاء صندوق الدعم الزراعي عام 2008، كحل إجرائي لإبقاء عجلة زراعة المحاصيل الاستراتيجية قائمة، وإلى توزيع أغنام على الأسر الريفية كقروض عينية، عبر مشروعي: «تنمية المنطقة الشرقية، تنمية البادية»؛ إلا أن الفساد والمحسوبيات وسوء التخطيط الحكومي مرة أخرى؛ كانت من أبرز أسباب فشل المشروعين، اللذين عجزا عن التأثير في القطاع الزراعي.

التأثير الكارثي للحرب

استمر تدهور القطاع الزراعي في محافظة دير الزور، على مدى السنوات الخمس الماضية، حيث توقفت الجمعيات الفلاحية والوحدات الإرشادية عن تقديم الخدمات والمساعدات للفلاحين والمربين؛ وازدادت صعوبة تأمين مستلزمات الزراعة وغلائها؛ فتوقف القطاعان الخاص والتعاوني بشكل شبه كلي، ما أدى إلى تراجع نسبة الأراضي المزروعة بحوالي (60) %، بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة FAO. إضافة إلى انخراط الكثير ممن يعملون بالزراعة في الأعمال العسكرية، أو في اقتصاد الحرب، الأمر الذي انعكس سلباً على العديد من الأراضي الزراعية الأخرى التي تُركت بوراً لعدة مواسم، وأصبحت تحتاج لعمليات استصلاح زراعي مكلفة لإعادة خصوبتها. ناهيك عن الدمار الحاصل بالبنية التحتية الخاصة بالزراعة بنسبة تجاوزت (35) %، وفق ما أعلنت مديرية الزراعة بدير الزور، خصوصاً مشروع الري في الريف الشرقي.

يُلقي هذا الواقع المأساوي للقطاع الزراعي بثقله على قوى الأمر الواقع في منطقتي النفوذ في دير الزور، نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية)؛ خصوصاً إذا ما علمنا أن الدعم اللازم لإعادة إنعاش قطاع الزراعة في سوريا يحتاج إلى (12-17) مليار دولار أمريكي وفق تقدير منظمات دولية.

تجاهل ومحاولات بائسة

لم تدرْ عجلة الزراعة في محافظة دير الزور حتى الآن، ليس لعدم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية فيها، ولعدم توفر مستلزماتها الأساسية بشكل كاف، وغلاء أسعار المواد المتوفرة منها فقط، وإنما لعدم قدرة نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية) على حل المشاكل البنيوية في القطاع الزراعي في منطقتي نفوذهما.

ففي حين لم يقم المجلس بأي خطوة في هذا الصدد سوى تأمين مادة «الديزل» بأسعار رخيصة في مناطق سيطرته، فإن ما تروّج له مديرية الزراعة في دير الزور، عن إنشاء (7) وحدات إرشادية في ريف دير الزور الغربي، وتوزيع (1500) حصة بذار زراعات أسرية، وتلقيح بعض الأغنام، لا تتعدى كونها عمليات تجميلية فقط. إذ أن مشكلات القطاع الزراعي أكبر من ذلك، وتحتاج لإمكانيات مالية كبيرة لا يستطيع نظام الأسد تأمينها، خصوصاً في ظل أزمته المالية التي جعلته يرفع الدعم عن الخدمات الأساسية، فضلاً عن أن المنظمات الدولية العاملة في مجال الزراعة، تعمل على اجتراح حلول إسعافية غير تنموية.

الانعكاسات المحتملة للمشكلة الزراعية

لا يبدو، على المدى القريب والمتوسط، أن هناك حلول فعلية للواقع السيء لقطاع الزراعة في منطقتي النفوذ بمحافظة دير الزور، مما يعني عدم قدرة السكان المحليين على تأمين موارد عيشهم، وتهديداً لأمنهم الغذائي. وبالتالي سيكون للمشكلة الزراعية انعكاسات اجتماعية واقتصادية بأشكال متعددة؛ بالدرجة الأولى سيؤثر سلباً على إمكانية عودة النازحين واللاجئين، ففي ظل انعدام البدائل الاقتصادية، غالباً سيفضل قسم كبير منهم البقاء في مناطق أخرى توفر لهم فرص عمل. أما العائدون إلى منطقتي النفوذ، فإن المشكلة الزراعية ستدفعهم للبحث عن بدائل اقتصادية لكسب لقمة عيشهم، ما يؤهل المنطقة مجدداً لتشهد موجة هجرة من الأرياف إلى المدن: «دير الزور، الميادين، البوكمال»، للبحث عن فرص عمل في قطاع الخدمات والمياومة وإزالة الركام، أو الانخراط في الأعمال العسكرية، بالانتساب إلى الميليشيات المتوزعة في المنطقتين.

وعلى الأغلب، ستعمل إيران على استغلال الوضع الاقتصادي المتردي في المحافظة، لصالح مشاريعها السياسية في المنطقة، باستقطاب المزيد من السكان على أساس ديني مذهبي مقابل رواتب مالية شهرية. أما في مناطق سيطرة (مجلس سوريا الديمقراطية)، رغم توفر بعض البدائل الاقتصادية لشرائح محدودة جداً من السكان المحليين، من خلال بعض المنظمات الدولية العاملة في المنطقة، إضافة إلى التحويلات المالية الخارجية، لكن الذين لا تتوفر لهم مثل هكذا فرص أو موارد، فلن يجدوا بديلاً إلا مزاولة بعض الأعمال التجارية غير المستقرة، أو الانخراط بعلاقات زبائنية مع (مجلس سوريا الديمقراطية).