التعفيش والترفيق
إحدى وسائل النظام في تأسيس الميليشيات

لم يترك النظام السوري، المتمركز حول شخص وحوله العائلة المنحدرة من وسط ريفي مذهبي، أي وسيلة، مهما كانت قذارتها، إلا واستخدمها للحفاظ على سلطته. وكان توزيع الامتيازات معلماً رئيسياً في سياساته منذ عهد الأسد الأب، وما زال مستمراً، بأشكال أبشع وأكثر تنوعاً، مع الابن.

ومحور هذا النهج هو: بمقدار ما تخدم النظام وتفرعاته يمكنك أن تكون جزءاً من شبكة المحسوبيات التي يرعاها. وستأتيك المكاسب وفقاً لقربك من/ وبعدك عن مركز الشبكة، ناهيك عن روابط أخرى. فتشكلت السلطة على مستوياتٍ لشبكة المحسوبية وفق تلك العلاقة-القاعدة، ففي المحور يأتي الرئيس وعائلته، تليهم شبكة كبار ضباط الأمن وقادة الفرق العسكرية الهامة، ثم شبكة «البرجوازية الجديدة»، وأخيراً شبكة صغار المنتفعين، وعنها سيتم الحديث هنا.

فبعد اندلاع الثورة بمدة قصيرة أخذ النظام ينشر مخبريه من البعثيين كعناصر رديفة للمخابرات التي صار شغلها أكبر من طاقتها، بالمراقبة والملاحقة والاعتقال والتعذيب ومواجهة المتظاهرين وإطلاق الرصاص عليهم وخطف الناشطين وغيره، فأوكلت جزءاً من مهامها القذرة إلى هؤلاء «الكتبة» الصغار، والمتمثلة في جمع المعلومات وكتابة التقارير، والذهاب إلى المساجد حيث كانت تنطلق المظاهرات، وافتعال أعمال استفزازية مع المتظاهرين، وضربهم أحياناً، كل هذا مقابل الفتات المعنوي والمادي الذي تقدمه الأجهزة، إذ تؤمّن لهم أحياناً ربطة الخبز أو أسطوانة الغاز أو بعض المواد التموينية الأخرى، في وقت صار فيه تقنين هذه المواد طريقة حياة، والأفضلية فيها لمن يدخل هذه الشبكة.

ثم انتقل النظام خطوة أخرى بأن أخذ يشرك هؤلاء الكسبة الصغار، وبعد دورات تدريبية قصيرة، في إقامة الحواجز على مداخل الأحياء بحجة حمايتها، وذلك لإحكام المزيد من الرقابة على الناس. وبالطبع ليست هناك قواعد لسلوك عناصر الحواجز، فمن التفتيش وطلب الهويات، إلى التحرش بالنساء، إلى فرض «الخوة» أو الإتاوة على سائقي الباصات والسرافيس، من علب الدخان والمتة والسندويش وبعض المال، وكله دعماً لمن يقوم بـ«حمايتك». حتى صار الأمر معروفاً للجميع، من مشاة وراكبي سيارات النقل العامة والخاصة وأصحاب الشاحنات الصغيرة والكبيرة. فليس مهماً ماذا تنقل، ومن معك، حتى إن كان مطلوباً للنظام، الأمر كله يتعلق بمقدار ما تدفع. إلى درجة صار فيها الحاجز بالنسبة إلى الشبيحة نقطة جذب لجمع الثروة، وربما كانت الحواجز على مداخل مدينة حلب والطرق الواصلة إليها خير مثال على ذلك.

ازداد عدد الميليشيات والجهات الداعمة لها، ومع تنوع الداعمين كان التفاوت في المزايا والعطايا وأحياناً النفوذ. فبعض المجموعات أسسها أصحاب مصانع خاصة من بقايا عمالهم، مستغلين حاجة هؤلاء إلى تأمين أساسيات العيش بالحدود الدنيا. لكن أكثر الميليشيات حصولاً على المزايا، وبالتالي القوة، هي تلك المرتبطة مع الحرس الثوري الإيراني ورموزه الطائفيين. وتبدأ الامتيازات من الطعام، إلى ما يتقاضوه من رواتب، وصولاً إلى سلطتهم وقت المعارك على عناصر وضباط جيش النظام.

بعد سيطرة النظام والميليشيات، بدعم من الطيران الروسي، على أحياء شرق حلب في نهاية 2016؛ أصبحت المهمة الأساسية لهؤلاء الشبيحة المتوزعين على تشكيلات عديدة هي نهب البيوت والتحرش بالناس، وخاصة بالنساء. وعندما لم يكتفوا بسرقة البيوت الفقيرة في شرق المدينة، أو ما تبقى منها، انتقلوا ليعمموا تجربتهم على غرب المدينة، فتحولت حلب إلى مرتع للشبيحة ولعمليات البلطجة التي يقومون بها في وضح النهار، كما عمليات القتل والسرقة، دون الاكتراث بأي عواقب غير متوقعة في الأساس.

فلم يعد التعفيش مقتصراً على المدن التي كان يوجد فيها مقاتلو الجيش الحر، حيث كانت السرقات تنسب إلى «الإرهابيين»، بل توسع ليشمل معظم المدن السورية، ولم يعد يسلم من تشبيحهم حتى من كان موالياً لنظامهم ولرئيسهم. وصولاً إلى تأسيس ما يُعرف بشركات «الترفيق»، وهي شركات حراسة تتكون من الشبّيحة والزعران، تؤمّن الحماية لقوافل السيارات الشاحنة وبضائعها وفق تسعيرات مختلفة تبعاً لنوع المواد المحمولة.

والآن يحاول بعض رسميي النظام تطويق هذه الظواهر والحدّ منها، ولكن ذلك لن يتحقق بعد استشراس أمراء الحرب الصغار الذين رباهم الأسد وأسهموا في انتصاراته الموضعية الأخيرة. وكالعادة سيستسلم مكافحو الفساد المزعومون إلى أنه طالما أن ذلك يحصل ضمن الدائرة «الوطنية» التي يتطلبها استمرار الأسد إلى الأبد، فلا ضير!