البحث عن مفقودي سورية (2) من (2) "العديد من السوريين محبطون.. يشعرون أنّ انتهاكات حقوق الإنسان مهمّة فقط عندما يناسب ذلك سياسات الدول الغربيّة"

عائلات من أجل الحرية - من موقع ICMP

جان بيتر ويستاد
16 كانون الثاني عن موقع New Internationalist
ترجمة مأمون حلبي

تتصدَّر محاولات تحديد مكان السوريين المفقودين شبكة مكوَّنة من اتحادات عائلية واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP)، وهي منظمة أسستها مجموعة الدول السبع الكبرى، ومقرها مدينة لاهاي الهولندية. المرحلة الأولى هي تجميع ومعالجة البيانات المتعلّقة بالمفقودين في خزّان معلومات مركزي، بحيث يمكن لهذه العمليّة أن تُساند التحقيقات. الهدف هو العثور على كل المفقودين بغض النظر عن خلفيتهم، وظروف أو مكان اختفائهم، وضمان أن يؤسس اتفاق سلام مستقبلي في سورية آليات تُمكّن عملية البحث تلك.

لينا الحسيني، رئيسة البرنامج السوري في (ICMP) توضّح قائلة: "بالدرجة الأولى، نحن نحضّر الأرضية لعملية العثور على المفقودين بطريقة تتماشى مع حكم القانون وتؤدي إلى المساءلة". إنْ تحقّقَ هذا السيناريو بالشكل الأفضل فهذا يعني أنّ المتسببين بعمليات الاختفاء سيخضعون للمحاكمة، وسيتم تعيين مكان المفقودين وإعادة لم شملهم مع عائلاتهم، والاستجابة الكاملة لحق عائلات المفقودين بالعدالة والحقيقة وجبر الضرر.

لكن في الواقع، كثير من المفقودين لن يعودوا وهم أحياء. عند هذه المرحلة، عملية مطابقة الحمض النووي الصبغي (DNA) للجثامين ضرورية. فدليل الهوية الذي لا يُدحض -وهذا ما يقدّمه تحليل الحمض النووي- هو أمر حاسم لضمان الحقوق بالعدالة وادعاءات الملكيّة وحضانة الأطفال. على الأقل، هذا الأمر يقدّم أملاً للعائلات في شكل من أشكال إغلاق هذا الملف بطريقة مقبولة.

قد يبدو هذا الطرح مثالياً لأنّ سيطرة نظام الأسد تبدو مضمونة بدرجة أكبر، لكن هذا البرنامج يرتكز على نجاحات سابقة في أماكن كانت احتمالات النجاح فيها شبه معدومة. تم تأسيس (ICMP) عام 1996 في ظروف ما بعد الحرب اليوغوسلافية، وقد كان لهذه اللجنة الدور المركزي في توثيق عمليات الإبادة التي حصلت في سريبرينيتسا، وتم خلالها قتل أكثر من 8000 مسلم بوسني من الرجال والأطفال من قِبل الجيش الصربي البوسني.

بالرغم من المحاولات الحثيثة لإخفاء الجثث -بما في ذلك تغيير مكان القبور الجماعية بالبلدوزرات وإعادة دفن الأشلاء على بُعد أميال- تم التعرّف على هوية أكثر من 90 % من القتلى منذ ذلك الوقت، وتحقق هذا الأمر عن طريق اللجوء إلى تحليل (DNA)، والآن بعد انقضاء 25 عاماً على المذبحة تتواصل هذه العملية. وقد استُخدِمت المعطيات التي بحوزة الـ (ICMP) كأدلة في كثير من المحاكمات الجنائية الناجحة في لاهاي. 

مع تزايد عدد أولئك الصرب البوسنيين الذين ينكرون عملية الإبادة في سريبرينيتسا، يُصبح عمل الـ (ICMP) وأصوات عائلات المفقودين هاماً اليوم بقدر ما كان هاماً من قبل. قالت لي منيرة سوباتشيك، رئيسة منظمة أمهات سريبرينيتسا، قبل الذكرى السنوية الخامسة والعشرين للمذبحة في تموز 2020: "إنه أمر مؤلم جداً أن تكون في سريبرينيتسا". فقدت منيرة أكثر من 20 فرداً من أفراد عائلتها في الحرب البوسنية. وحتى في وقتنا هذا، لا تُبارح مخيلتها رؤيتها لكثير من مرتكبي الجرائم الذين لم يواجهوا العدالة أبداً، وهم يسيرون في شوارع المدينة. "سريبرينيتسا إبادة حيّة، وهي تُنكَر تماماً كما تم إنكار عمليات قتل أحبائنا".

جامعو البيانات

تواجهنا في حالة سورية تحديات خاصة بهذا البلد، فقد أدى القتال هناك إلى النزوح الداخلي لـ 6،6 مليون سوري، بالإضافة إلى 5،6 مليون لاجئ خارج البلاد، ومع وجود عدد كبير من الناس قد أضحوا مُبعدين عن بيوتهم وعائلاتهم، تُصبح عملية العثور على المفقودين مهمة تُغطي كل العالم. تقول لينا الحسيني: "نحن نأخذ المعلومات بشكل شخصي مباشر من أفراد العائلة المقربين. هذا يعني أنّ علينا أن نعمل ليس في سورية فقط، وإنما أيضاً في لبنان والعراق وعلى امتداد الشرق الأوسط وأوروبا". بالرغم من الصعوبات، يتم إحراز تقدّم، فهناك أكثر من 14 ألف من الأسماء قد جُمِّعت في الـ 18 شهراً الأخيرة لوحدها.

عملية تجميع البيانات تترافق مع الحيطة، لاسيما في سورية، فالإبلاغ عن حالات الاختفاء يترتب عليه مخاطرة بعواقب انتقامية من الجماعات المسلحة أو الاستخبارات السورية. محمود أسود، الذي كان طبيب جراحة عظمية في إدلب قبل الحرب، يعمل حالياً مع (ICMP) في العثور على جامعي البيانات وتدريبهم داخل سورية. أصبح عمّ محمود مفقوداً من مدينة إدلب عام 2018، وعلى الأرجح تمّ أخذه من قِبل إحدى الجماعات المسلّحة في المنطقة.

يقول محمود إنّ اختيار الشخص المناسب هو العامل الأهم: "نحدد مكان وجود الناس المحترمين ضمن مجتمعاتهم: معلمين، محامين، أطباء، مهندسين. يجب أن يكونوا موثوقين وأن يكون لديهم شبكات جيدة، ما يُتيح لهم أن يَعلَموا بحالات الاختفاء، ويشعر الناس بالراحة تجاههم عندما يتقدمون بالإدلاء بما لديهم من معلومات تخص حالات الاختفاء".

حالما يُنتقى جامعو البيانات، يُدرّبون على تسجيل المعلومات بمسؤولية ودقة، وبعد ذلك تُحمّل هذه المعلومات على قاعدة البيانات المأمونة في لاهاي وتبقى طي الكتمان. وتمتلك عائلات الضحايا الحق الحصري بملكية المعلومات، وتستطيع أن تختار تحديث ملفاتها أو إزالتها في أي وقت.

 من الأهمية بمكان أيضاً أن نكون واقعيين، وألا نرفع من سقف التوقعات: "نحن نوضّح دوماً أنّ هذه السيرورة طويلة زمنياً، وقد تستغرق من 10 إلى 20 سنة، أو من المحتمل ألا تُثمر إطلاقاً". إنه عمل صعب، يقول لي محمود إنّ بعض الزملاء قد تخلّوا عن هذا العمل بسبب افتقادهم لتقدّم واضح نحو العدالة: "العديد من السوريين محبطون كليّة، فهم يشعرون أنّ انتهاكات حقوق الإنسان مهمّة فقط عندما يناسب ذلك سياسات الدول الغربيّة، لكنّ واجبنا هو المثابرة على تعليم الناس بخصوص حقوقهم الآن، وفي المستقبل".

السبب في أنّ الحقيقة مهمة

تتفهّم وفا علي مصطفى هذا الإحباط بشكل كبير، فوالدها علي اختفى من دمشق قبل أكثر من 7 سنوات خلت. منذ ذلك الوقت أصبحت وفا، ابنة الثلاثين عاماً، أحد أفراد الحملة الأعلى صوتاً المُطالبة بالعدالة مع منظمة (عائلات من أجل الحرية)، وفي تموز 2020 أدلت بشهادتها لمجلس الأمن الدولي، معبّرة عن قلقها بخصوص ما تعتبره عائلات الضحايا كتخلٍّ عن تحمّل المسؤولية. ومع أنّ مجلس الأمن أقرّ بخطورة الوضع، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء: "إننا نطالب مجلس الأمن بإصدار قرار حول الاعتقال والاختفاء القسري في سورية؛ إنّ قراراً كهذا سيُشكّل فرقاً حقيقياً، لكن لا يبدو أنه توجد إرادة لإقرار تغيير نافذ فعلياً".

لكن هناك أيضاً بعض التطورات المشجّعة بدرجة أكبر، فأعضاء منظمة (عائلات من أجل الحرية) يجوبون أنحاء أوروبا متظاهرين في المدن الكبرى (لندن، برلين، بروكسل) وهم يرفعون صور أحبائهم المفقودين. وبالأمس القريب وجدت وفا مصطفى نفسها تتظاهر خارج قاعة المحكمة الرئيسية في كوبلنز الألمانية، حيث كان مسؤولان أمنيان سابقان من سورية يخضعان للمحكمة. وهذه أول محاكمة في العالم لتهمة التعذيب الذي يُمارس برعاية الدولة السورية.

ساعدت إفادات الشهود الصادرة عن أفراد من عائلات المفقودين على أن تكشف للعالم درجة التعذيب الذي كانت تمارسه أجهزة الاستخبارات الأسدية، كذلك أيضاً فعلت الإفادات الصادرة عن موظفين أمنيين سابقين، ففي 9 أيلول 2020 استمعت المحكمة لإفادة موظف في مكتب لدفن الموتى -قُدّم باسم (Z) لحماية عائلته في سورية- كان مكلفاً بدفن جثامين المعتقلين الموتى، وقد أخبر هذا الشاهد المحكمة عن "أنهار من الدماء والديدان"، وعن جثث مشوّهة لدرجة أنه "لا يمكن تمييزها". تُظهر إفادة هذا الشاهد أنّ عمليات القتل لم تكن أفعالاً عشوائية بنْتَ لحظتها ارتكبها موظفون عصيون على الضبط، بل كانت جرائم مُمنهجة ومنظّمة من قِبل السلطات الحكومية.

عمليات البوح بالمستور التي تخرج من محكمة كوبلنز في هذه الأيام لن تُفاجئ محمد، الذي عرف أخيراً عام 2015 أنّ والده أحمد كان قد قُتِل في المُعتقل. كان أحمد أحد الضحايا الذين تمّ التعرّف إليهم في مجموعة الصور التي سرّبها منشق عسكري معروف باسم ”قيصر“. وقد أظهرتْ صورٌ كثيرة جثامين لمعتقلين قُتِلوا نتيجة للتعذيب. 

ليس لدى محمد كلمات يصف بها مشاعره وهو يبحث عن والده بين هذه الصور: "قبل تلك اللحظة، كان أسوأ شيء هو تخيل والدي ميتاً، لكن بعد مشاهدتي للمعاناة في تلك الصور أملْتُ أن يكون ميتاً لكي ينعم بالسكينة". ما كان لمعرفته بمصير والده إلا أن تُصلِّب تصميم أحمد في الحرص على عدم نسيان ذكرى أولئك المفقودين، ليس فقط من أجل نفسه وإنما أيضاً من أجل ضحايا مستقبليين.

كما حصل مع سريبرينيتسا، ما يُقلق أحمد هو أنّ رواية النزاع السوري آخذة في أن تشوّه وتحرّف، وتبسّط بحيث تصبح قصة نظام حاكم يتصدّى لإرهابيين راديكاليين: "أعتقد أنّ أولئك المسؤولين عن قتل والدي هم نفس أولئك الذين حاولوا أن يغيّروا صورة الشعب السوري. علينا عدم السماح بحدوث ذلك. إن لم نتذكر أولئك الذين رحلوا فسنترك أناساً آخرين يتعرضون لنفس المأساة".

ما يؤديه عمل عائلات المفقودين ومن يساندهم ليس فقط تقديم شهادات تُساعد على تحديد مكان أحبائهم والتحضير لتحديّات قانونية مستقبلاً، بل يُظهر هذا العمل أيضاً أنّ الكشف عن الحقيقة وصونها هو مهمة صعبة ومتواصلة، وأحياناً لا يبتغي جزاءً ولا شكوراً، خصوصاً أثناء نزاع شديد التغيّرات وبالغ التعقيد. لربما قد توقّف القتال تقريباً في سورية، لكن مع دخول البلاد مرحلة جديدة، فإنّ أولئك الذين يوثقون دون كلل مفقودي سورية يضربون مثلاً هاماً لنا جميعاً.