وفاء علي مصطفى ترفع صورة والدها خلال مظاهرة بمناسبة اليوم العالمي للمفقودين ، في ميدان ألكسندر ، برلين - أحمد كلجي

(الكفاح من أجل ذكرى أولئك الذين قد رحلوا فعل مقاومة هام في سيرورة العدالة الطويلة زمنياً)

جان بيتر ويستاد
16 كانون الثاني عن موقع New internationalist
ترجمة مأمون حلبي

مع ابتعاد النزاع في سوريا عن العناوين الإخبارية الرئيسية، يكتب جان بيتر ويستاد تقريراً عن الجهود الدولية التي لا تكل، والمتعلِّقة بالعثور على الأشخاص المفقودين، وفي طليعة هذه الجهود تلك التي تبذلها عائلات المختفين.

بدأ اليوم مثل أي يوم آخر. مشى محمد الشيخ، الذي كان في الرابعة عشرة من العمر وقتذاك، إلى المدرسة برفقة والده في مدينتهم معضمية الشام، الواقعة قرب دمشق. تلقّى محمد دروسه ودردش مع أصدقائه، ثم عاد إلى البيت وشاهد شيئاً مما يقدّمه التلفاز بينما كانت أمه تُحضّر طعام العشاء. عندما لم يعد أحمد، والد محمد، إلى البيت من عمله كمدير علاقات تجارية لفرع محلي لشركة نستله السويسرية، بدأوا يقلقون عليه.

كان من عادة أحمد أن يتصل بهم إن كان سيتأخر في عودته من العمل، لكن في ذلك المساء لم تسمع العائلة صوته. يتذكّر أحمد ذلك اليوم: "كان شعور ثقيل يتملكنا أنا وأمي. خرجنا من البيت فشاهدنا سيارتين عند نهاية شارعنا. بعد ذلك سمعنا صوت عيارات نارية فتم إرسالي إلى داخل البيت". فيما بعد، أخبره الجيران أنهم كانوا قد شاهدوا عناصر أمنيّة يحشرون أحمد داخل إحدى السيارتين.

حدثت تلك الواقعة في 7 أيار 2012، وكان ذلك اليوم آخر مرة يرى فيها محمد والده حياً.

إنها لحقيقة مرّة أنّ قصصاً من هذا النوع شائعة لدرجة تفطر القلب. ثمة اعتقاد أنه منذ بدء الثورة في آذار 2011 هناك أكثر من 130 ألف مفقود. لدينا عدد من الأسباب التي تفسّر اختفاء الناس، فبعض المقاتلين والمدنيين يصبحون في عِداد المفقودين كضحايا للحرب، وآخرون اُختُطِفوا أو اُعتُقِلوا، أو أُعْدِموا ودُفِنوا في مقابر جماعية. وفوق ذلك، هناك من فُقِدوا في طرقات الهجرة. ويُعتقد أن غالبية المفقودين، ويُعدّون بعشرات الآلاف، قد اُعتُقِلوا وتم إخفاؤهم قسرياً على يد حكومة بشار الأسد. كما أنّ تنظيم الدولة ومجموعات أخرى متشدّدة –بما فيهم مجموعات تدعمها القوى الغربيّة– أيضاً أسروا وعذّبوا وقتلوا سجناء. 

ومع استطالة القتال لنحو عقد من الزمن، وامتداده تقريباً لكل أنحاء البلاد، يتوزّع المفقودون على كل الأطراف. 
منذ الأيام الأولى للثورة، كان الانضمام إلى المظاهرات أو انتقاد السلطات، أو الوقوع تحت أي من الشبهتين، سبباً كافياً لأنّ يُعتقل المرء. ويعتقد محمد، الذي شاهد والده في إحدى المرات يحمل حقيبة ملأى بالمستلزمات الطبيّة، أنّ مساندة والده للمحتجّين ربما كانت سبب اعتقاله، مع أنّ والده كان حريصاً على إبقاء أي نشاط ثوري يقوم به سراً عن أسرته. يقول محمد: "كان يخشى تعريضنا للخطر". وكما هو الحال تقريباً مع كل حالات المعتقلين، عندما حاولت عائلة أحمد الحصول على معلومات من السلطات، أنكروا احتجازهم له. وعندما انحدرت البلاد إلى حرب شاملة، لم يتبقّ لمحمد وأمه وشقيقاته الثلاث من خِيار سوى الهروب، بداية إلى دروشة القريبة، وهي إحدى ضواحي دمشق، وبعدها إلى مصر، قبل أن يستقروا أخيراً في ألمانيا.

حيوات منفصمة إلى قسمين

يتذكّر محمد، الذي يدرس حالياً العلوم الاقتصادية في ميونيخ، الغضب الذي أحسّ به عندما رأى الحياة تستمر بشكل طبيعي في أوروبا بينما يُدمّر بلده الأم، ووالده مفقود. يقول: "عندما يكون شخص قريب منك في عِداد المفقودين، تعيش حياتين. جزء منك يبقى دائماً بانتظار هذا الشخص مع رغبة بسماع أي خبر عنه. من ناحية أخرى، عليك أن تعمل، أن تدرس، وأن تقابل الناس.. عليك أن تستمر.. هذا هو الأمر الأصعب".

كل العائلات التي أتحدث إليها تذكر هذا الوجود المزدوج. فهم يصِفون نفس الصعوبة في الاستقرار في حياة جديدة، وأحياناً في قارة أخرى، في حين أنهم مقيدون بذاكراتهم باللحظة التي اختفى فيها أحبتهم وببحثهم عن أجوبة. وما يُعقّد عواطفهم هو حقيقة أنّ سوريا ما تزال تترنح من تأثيرات الحرب، لا سيما في إدلب، آخر منطقة كبيرة معادية للحكومة في شمال غرب سوريا، هذه المنطقة التي كانت واقعة تحت الحصار من نيسان 2019 حتى آذار 2020 عندما تم الاتفاق على وقف لإطلاق النار. وفي حين ما يزال وقف إطلاق النار قائماً إلى درجة كبيرة، فإنه للآن لم يُكشف عن مدى العنف الذي أُوقِع بالشعب السوري.

في تشرين الأول 2020، نشرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريراً من 167 صفحة يقدّم أدلة على جرائم حرب ارتكبها التحالف السوري – الروسي أثناء حصار إدلب، ويُسلّط الضوء على عدد كبير من الهجمات الجويّة والبريّة على المناطق المدنية (قصف البيوت والمدارس والمستشفيات)، ويذكر استخدام "الذخيرة العنقودية والأسلحة الحارقة والبراميل المتفجرة في المناطق الآهلة بالسكان، وهذا ما كان له تأثيرات فتاكة". ويُعتقد أنّ 1600 شخصاً مدنياً قد قُتِلوا وأنّ 1،4 مليون شخص قد هجِّروا، بأقل التقديرات. 

آخر تقرير صادر عن المفوضية الأممية لتقصّي الحقائق حول سوريا وجد أنّ "السوريين ما زالوا يُقتلون بشكل يومي، ويعانون من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على يد كل الفاعلين الذين يسيطرون على الأراضي في سوريا، بما في ذلك الاعتقالات التعسفيّة وعمليات الإخفاء القسري، والتعذيب والقتل أثناء الاعتقال.

الكفاح من أجل عدم نسيانهم

مع وجود ملايين الناس في حاجة فورية للمساعدة، يبدو إبداء الدعم لقضية أولئك المفقودين منذ سنوات ليس دائماً بالأمر السهل. فتراجُع الحماس في الإعلام الغربي واضح، والمتمردون المهزومون الذين كان لهم دورهم في عمليات التعذيب والإخفاء يفرون من البلاد. وفي نفس الوقت، يبدو أنّ الأسد بدعم من روسيا، قد أحاط رئاسته بستار من الأمان. 

أمّا ما يُقلق عائلات المفقودين فهو أنّ الجناة قد لا يخضعون أبداً للمحاكمة، وإن حصل وخضعوا للمحاكمة، فقد لا يتم هذا الأمر لعقود من الزمن. وحتى مع اقترابنا أكثر فأكثر من الانكشاف التام للجرائم التي ارتُكِبت بحق سوريين أبرياء، هناك خطر إضاعة التاريخ أو إعادة كتابته. وفي سياق كهذا، فإنّ تسجيل الشهادات والكفاح من أجل ذكرى أولئك الذين قد رحلوا يُصبح فعل مقاومة هام في سيرورة العدالة الطويلة زمنياً.