إما الحمم أو حميميم!

حميميم، القرية الجميلة بين جبلة والقرداحة في جبال العلويين، تحوّلت إلى أهمّ قاعدةٍ عسكريةٍ روسيةٍ في سورية، تنطلق منها الطائرات التي توزّع الحمم منذ اليوم الأخير لأيلول 2015 وحتى يومنا. وزيادةً على دورها في القتل اليوميّ صار لها دورٌ إضافيٌّ تكميليٌّ في إخضاع السوريين، عبر ما يُعرف بلقاءات حميميم السياسية التي نتجت عنها «معارضة» حميميم.

وهو الأمر الذي يكشف عن السياسة الروسية ذات العقلية الاستبدادية المتجذرة والمرافقة لطبيعة نشوء الدولة هناك، التي تعتمد الحضور الكليّ لرأسها مبتلعاً المجتمع وتعبيراته الحية، ومعيداً تشكيله قسرياً وفق أهواء «الزعيم». هذه السياسة التي يكرّسها اليوم بوتين الآتي من رحم «الحزب» الستالينيّ ومخابراته، مستلهماً بشغفٍ تجربة «معلّمه» الذي أذاق المواطنين الروس -وغيرهم من دول ما كان يُعرف بالاتحاد السوفياتيّ- الويلات، والذي اختزل المجتمع بالحزب وصولاً إلى عبادته وتقديس شخصه، في ما عُرف بعبادة الفرد-الزعيم الذي كان مصير من لا يعبده معروفاً، الغياب الكليّ.

تلك تجربةٌ تستهوي كلّ الطغاة والمستبدين. وكان جوهر العلاقة بين الدكتاتور الأسد الأب والسوفيات يقوم على استنساخ التجربة وأدواتها وعقليتها التي تعتمد مبدأ «إما... أو... ». فسادت الأشكال المشوّهة من جهةٍ، والخانقة لكلّ أشكال الحياة في المجتمع من جهةٍ أخرى، من المنظمات الشعبية -التي كان آخرها الطلائع- إلى أجهزة الإخضاع والرعب، المخابرات، التي تكمل دورة السيطرة على الأفراد والمجتمع، والتي ورثها الطاغية الابن بشكلٍ هزليّ.

لا تخرج سياسة الأزعر بوتين و«ذيله» المسخ عن تلك العقلية. فما لم تحققه مخابرات الأسد وقوّاته طيلة السنوات الخمس الماضية، وفتاوى «المرشد» لتحشيد كلّ قطعان الموت المذهبية، يريد تحقيقه الدعم الخلفيّ الروسيّ أولاً ثم المشاركة المباشرة التي صارت حميميم منطلقاً لها ورمزاً.

ولا يقتصر الدور الروسيّ على عمليات القتل اليومية، فلا بدّ من استكمال المهمة بشكلٍ آخر أكثر نعومةً وأناقة، أي الشكل السياسيّ عبر تكوين «معارضةٍ» وفق الرؤيا الروسية المعتمدة على المقاتلات، وهو ما عبّر عنه صراحةً «المندوب السامي» لافروف بقوله مؤخراً: «إن المقاتلات الروسية تمهد الطريق جيداً للمفاوضات في سورية». فالهمّ الأساسيّ للروس هو إفشال ثورة السوريين وإعادتهم إلى نظامٍ بالجوهر ذاته، التطويع والخنق.

كان طبيعياً، في مجتمعٍ مزّقته المخابرات حتى أصغر تشكيلاته ونخرتها حتى القاع، أن تلاقي الدعوات الروسية لتشكيل وفودٍ «معارضةٍ» بديلةٍ أو موازيةٍ لوفد المعارضة السورية الشرعيّ قبولاً. وبالطبع كان ذلك القبول محصوراً بمجموعاتٍ وشخصياتٍ مختلفةٍ في سورية، ومن منابت شتى، ولكن تنظمها ذات العقيدة/المذهب: العداء للمجتمع والاغتراب عنه؛ من شخصياتٍ دينيةٍ تربّت على تعليمات فروع المخابرات وفتات موائدها، تجترّ عقلها «المستقيل» وقت طلب الفتاوى السلطانية، إلى شخصيات «الحزب» الحديث الذي يعلن صراحةً أنه «مستعدٌّ» لإيجار بندقيته، مروراً ببعض قدامى «اليسار الشيوعيّ»، الذي وجد ملاذه الأخير ضمن «هويته» العميقة، ليعلن أن الخطر الأساسيّ قادمٌ من الفاشية الإسلامية المتطرّفة، دون نسيان «صنّاع الدستور وشارحيه». كل هؤلاء يتلاقون ويروّجون للوجه الروسيّ الناعم بعد غضّ الطرف عن الوجه البشع- إن لم يكن ضرورةً لهم!– الذي يرسم عنوةً مستقبل سورية بشكلٍ يستعدي الغالبية ومحوره الأقليات و«علمانيتهم».

فالقصف الوحشيّ الذي تتعرّض له حلب في الفترة الأخيرة، متزامناً مع تعثر المفاوضات وعدم التجاوب أو الخضوع للمطالب الروسية، هذا القصف الذي شمل كلّ مرتكزات ما تبقى من حياةٍ، وما سبّبه من تهجيرٍ؛ هو التعبير عن تلك السياسة، بل هو الجناح الهامّ فيها، إن صحّ القول إن السياسة الروسية بجناحين، يعبّر عن جوهرها مبدأ: إما، أو؛ إما الطائرات وقذائفها أو قاعة كبار الزوار في المطارات، والهدف واحدٌ وإن اختلفت الطرق ظاهرياً.

لكن خيار السوريين هو الحرية -التي تتنافى جوهرياً مع الروس الذين باتوا يتعاملون مع سورية كإحدى جمهورياتهم- خيار الفضاء الكبير الذي يتسع للجميع وأولهم المختلف، والبديل الحقيقيّ لخيار المستبدين المتلخص في خيار إما، أو. فرغم كلّ الدمار الذي لحق بالبلد ظلّ السوريون يرفضون ما طرحه الأسد منذ البداية «إما أنا أو أحرق البلد»، وهم مستمرّون في رفض الدور الروسيّ «إما الحمم أو حميميم»، ورفض الإغراءات بالذهاب إلى قاعدة الموت التي لن تصبح أبداً مركزاً للسلام.