أم سميح.. المرأة التي أخجلتنا

أم سميح - متداولة على الإنترنت

(كباب هندي، فريكة مع الدجاج، كبسة باللحم، صفيحة، رز مع البازلاء...)، تلك اللائحة ليست قائمة طعام في أحد المطاعم الفاخرة، هي وببساطة قائمة طعام تقدمها الخالة أم سميح كما «يُطلق عليها أهالي الغوطة» في مطبخها الذي هُجّر قسراً مع مديرته إلى مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي بعد سنوات من العمل الدؤوب داخل الغوطة المحاصرة.

منذ كانت أم سميح في الغوطة كرّست حياتها للعمل، وكعادة من يملكون روح الثورة والنضال لم تظهر على وسائل الإعلام إلّا نادراً، عملها كان يدلّ عليها ويُشكّل مادة دسمة لكثير من الكتاب الذين تحدّثوا عنها، حتى دون رؤيتها. ومنذ وصولها إلى الأتارب شمّرت عن ساعديها لتكمل ما بدأت به. هذه المرة دون أن تدلي بأي تصريح صحفي، رغم محاولتنا الوصول إليها، إلّا أن اللوجستي عبد الله شلو اعتذر بالنيابة عنها، فأم سميح رفضت الحديث مع كل من تواصل معها من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، هي الآن كما في كل وقت تعمل، إذ لا وقت للكلام في حياتها.

 هي أم سميح التي اختصرت مفهوم النضال حين رفضت ترشيحها لجائزة المرأة العربية، وأجابت «أنا بدي طعمي العالم...بدي أنقذهم من الموت...شو جائزة ما جائزة...أنا تبع جوائز...شو هي ثورة جوائز؟».

من لا يعرف أم سميح في الغوطة! كلّ الأطفال والعائلات والفقراء تعرف ذلك الوجه المبتسم للفلسطينية فاتن أبو فارس، والتي آمنت بالثورة السورية منذ بدايتها واعتُقلت على يد الأمن السوري ثلاث مرات، كما اعتقل الأمن في نيسان 2013 ابنها سميح بحرة طالب الطب البشري الذي انخرط في مساعدة الجرحى وتأمين الدواء والإسعاف خلال المظاهرات، وليبقى في ذاكرة أم سميح كحلم بأن يصبح «جراح أعصاب» يوماً.

 أم سميح المتحدرة من يافا، والبالغة من العمر 54 سنة، تركت عملها في الترجمة (خريجة لغة إنجليزية) وذهبت إلى الغوطة الشرقية بعد اعتقالها الثالث، وأسست هناك بمساعدة صديقة من مدينة السويداء، تعرفت عليها في المعتقل، مطبخاً خيرياً يقدم الطعام لأهل مدينة حرستا المحاصرة.

منذ عام 2014 بدأت مشروعها الذي أطلقت عليه اسم «مطبخ أهالي السويداء مساندة لأهالي حرستا»، والذي تحوّل فيما بعد إلى «مؤسسة يد واحدة». أم سميح تدير كل مفاصل هذا المشروع، من الطبخ والتصوير والتوثيق والتواصل، وهي السيدة الوحيدة بين كادر من الرجال الذين استطاعت أن تكسب ثقتهم واحترامهم، ليتطور عمل المؤسسة في توزيع الطعام على المئات من العائلات تجاوزت منطقة حرستا ووصلت إلى مناطق أخرى في الغوطة الشرقية. وحدها أم سميح كانت تقود «السوزوكي» بنفسها أو تزحف بين الركام والحواجز لإسعاد طفل بوجبة طعام أو هدية، وكفلت المؤسسة ما يقارب (160 يتيماً) إضافة إلى مشاريع صغيرة لبعض أهالي الغوطة، وبقيت أم سميح رغم كل الظروف حاملة رسالتها الأهم في مساعدة الأطفال الذين حرموا من طفولتهم وهم يحملون عبء الحصار، بعد أن حوّلتهم آلة الحرب الأسدية إلى أيتام، وفي أحسن الأحوال إلى رجال قبل أوانهم.

ودّعت أم سميح الغوطة في 22/3/2018 بـ «الصفيحة الأخيرة»، كما أطلقت عليها، وبصوت يغص بالبكاء، وقَسَم بالعودة.

لا تملك أم سميح بيتاً في الأتارب اليوم، هي تعيش متنقلة تتابع عملها الذي بدأته في الغوطة، أسست مطبخها من جديد بعد يومين فقط من وصولها، وقامت بمساعدة من مركز التنمية وبعض المتبرعين بشراء أدوات الطبخ وتوزيع الطعام الذي ألِف مذاقه أهل الغوطة لسنوات، إذ تقدم أكثر من 200 وجبة يومياً، بالإضافة إلى الخبز والخضار وكفالة الأيتام ودعم المشاريع الصغيرة.

في حضرة أم سميح كلنا نشعر بالخجل والفخر في آن معاً، هي الفلسطينية التي عبّرت بفطرية من تربّى على النضال، ووقفت مع المحاصرين والمهجّرين غير آبهة بالتعب والاعتقال والجوع، ربما أرادت أن تخبرنا أن القضية المركزية تكمن في ذلك الموقف الأخلاقي ضد الطغاة وظلمهم أينما وجدوا، وعلينا أن نكمل الطريق لا أن نلوك المرارة ويشلّنا العجز، وأن البقاء على قيد الحياة والسعي للتشبث بها هو انتصار للثورة/الحياة.